عقلاء العالم، تفاجأوا بالتكتيك العسكري، الذي إتبعته إسرائيل، في حربها على غزة. كان من خطتها، أن تكون حربها أوسع، حتى تنشغل دول القرار بها. فقرار إسرائيل بتوسعة حربها الأخيرة، لتشمل الضفة وأراضي السلطة الفلسطينية حتى تساوم عليها، باءت بالفشل. ولم تستطع جرّ قوى السلطة الفلسطينية ولا الفصائل المتحالفة معها، إلى الرد، لا من داخل أراضي السلطة، ولا من مواقع نفوذها في الخارج.
دفعت السلطة الفلسطينية ودافعت، بالسياسة وبالإعلام، فأفسدت خطة إسرائيل بضمّها إلى حربها في غزة، أقلّه، حتى الآن.
لم توقف إسرائيل ما بيتته في سرّها، من توسعة الحرب، حتى يقال إنها تخوض حربا وجودية. فكانت إلتفاتها «الحمقاء»، إلى الجنوب اللبناني. أرادت أن تجرّ «حزب الله» و«المقاومة الإسلامية»، إلى الحرب التي قررتها، إلى الحرب التي بيتتها، إلى الخطط التي تريد من خلالها، توسعة الحرب، فلا تظل حربا على «حماس» وحدها. فإسرائيل تريد أن تسمع العالم، أنها محاصرة، أنها مهددة، وأنها تخوض حربا وجودية على الجبهات كلها، لا في غزة وحدها، ولا في مدن قطاعها.
شعرت إسرائيل بعمق مأزقها، عندما وجدت في قيادة «حزب الله»، وفي قيادة «المقاومة»، من يعي خططها الخبيثة. إستنفرت جميع أجهزة إعلامها، للتحريض، في داخلها وفي خارجها. صارت تنادي بين الإسرائيليين، كما بين أمم العالم، أنها تخوض معركة وجودية، تكون فيها إسرائيل، أو لا تكون. وكانت تشتهي، أن تنضم «المقاومة» إلى ملاقاتها، على أرض الجنوب، فتصحّ بذلك مقولتها: أنها في خطر كياني محيق بها.
بدأت إسرائيل بالمناورة على اللبنانيين لجرّهم إلى حرب لم يقرّها ولم يقررها اللبنانيون. وبدأت مناورتها على «حزب الله» و«المقاومة»، حتى يتم إعلانهما، عن الانضمام إلى الحرب، غير أنها كانت تضرب في حديد بارد، فما وجدت عند «حزب الله»، ولا «المقاومة»، حماسة لحرب، تقررها إسرائيل. كان الخطاب اللبناني واحدا سياسيا وعسكريا: إسرائيل تريدنا الإنضمام إلى حربها على غزة، بل تحاول فرض تكتيكها السياسي والعسكري هذا علينا. تريد منا أن نوسّع لها الجبهة، ونحن لا مصلحة لنا أن نلبّي رغباتها، ولا مصلحة لنا أن نحقق أرادتها. فنحن نخوض الحرب معها بشروطنا، لا بشروطها، وبتوقيتنا لا بتوقيتها، وبجاهزيتنا لا بجاهزيتها، وبتكتيكنا، لا بتكتيكها.
أدركت إسرائيل ولو بعد مضيها في الحرب على غزة لشهرين وأكثر، أنها لا تستطيع، أن تستطلع النوايا اللبنانية، وأنها لا تستطيع أن تفتت الوحدة اللبنانية، وأنها لا تستطيع، أن تفت في قوة إرادتهم، وفي صلابة موقفهم، كما لا تستطيع جرّهم إلى الحرب لتحقيق ما تبيته من نوايا خبيثة، أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، في أن حربها اليوم إنما هي حرب كيانية. فصارت قيادتها في تضعضع، وصار شعبها في تململ، وصارت لا تعرف ما تبرر به ضرباتها على الجنوب اللبناني.
لجأت إسرائيل، إلى أسلوب المناوشات، القديم الجديد. لجأت إلى التحريض اليومي على «حزب الله» وعلى المقاومة. صارت توسّع كل يوم من دائرة إعتداءاتها: على بيوت القرى المحاذية، وعلى مواقع الجيش اللبناني، تريد إستفزازه، وعلى المواقع التابعة لحزب الله، وللمقاومة. فما كانت تلاقي منهما، إلّا ما يحسن الجواب، على ما تبيته إسرائيل ذاتها في عمق نفسها.
كانت الردود اللبنانية على أعمالها الإستدراجية العدوانية، هي للقول لها: إن حربك على غزة صغيرة جدا، ولا تحتاج منا الرد، لأن أهل غزة أدرى بشعاب غزة. فصممت الدولة العدوانية، أن تهدّد الشعب اللبناني كله. أن تقول له: إن بيروت مهددة. وإن لبنان كله مهدد. وإنكم جميعا في متناول أيدينا. بعثت بالرسائل المادية والإعلامية، ومن خلال المبعوثين، ومن خلال الممثلين.. كانت إسرائيل تريد منا أن نردّ على الغباء بالغباء، ولم تدرِ أنها أمام قيادة سياسية واعية، وأن حزب الله والمقاومة وعموم الشعب اللبناني، إنما هو اليوم واحد، ولن ينجرّ إلى رغبتها في حرب، هي بنت بجدتها.
حصة لبنان من الحرب، يقررها إذا اللبنانيون أنفسهم. يعرفونها تماما، من خلال وحدتهم، ومن خلال إرادتهم، ومن خلال وعيهم السياسي والعسكري. ولا تستطيع إسرائيل، أن تنال منها. يعرفون تماما، من خلال التنسيق اليومي للموقف، مع جميع القوى اللبنانية، وفي طليعة هذه القوى، حزب الله والمقاومة، كيف يصونون لبنان، وكيف يحفظونه، عن الإستدراج إلى ما تشتهيه إسرائيل منه. فلبنان اليوم بلغ سن الرشد، كما جميع قواه السياسية والعسكرية. وأن حصته من الحرب، هو حفظ التراب اللبناني، وعدم التفريط به، وحفظ الكرامة اللبنانية وعدم التفريط بها. خسئت إذا، إسرائيل في جميع مواقفها. فالحرب التي تديرها، كبيرة في وحشيتها، غير أنها صغيرة جدا في رقعتها، وفي آليتها، وفي جبهتها. وأكبر دليل على ذلك، أنها تنازل حماس وحدها، لأكثر من سبعين يوما. مرّغت أنفها في أوحال غزة، ولم تمكّنها من نفسها. وليس لنا بعد ذلك، أن نمنحها، شرف الإدّعاء أنها تخوض حربا كيانية! بل هي تخوض حربا وحشية عدوانية. وتطالبها اليوم، جميع أمم الأرض، بأن توقف عدوانها!
* أستاذ في الجامعة اللبنانية