الإنقسام السياسي اللبناني عميق وعميق جداً. ليس هناك من جديد في هذا الأمر. لطالما كانت السياسة اللبنانيّة كذلك، ولطالما كانت القوى المحليّة تختلف حول الخيارات الوطنيّة، وقلما استطاعت توفير الحد الأدنى من التفاهم على الثوابت ولو بالحدود الدنيا التي تتيح للوطن الصغير أن يسير بين ألغام المنطقة المتوترة دائماً والمشتعلة أحياناً.
الخطاب الرسمي اللبناني في مكان ومواقف الأطراف والقوى السياسيّة في أمكنة أخرى تماماً، كل منها يقيس المصطلحات ويختار التعابير التي تتلاءم مع رؤيته ومصلحته التي لا تتقاطع بالضرورة مع المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة التي تخضع بدورها لاختلاف في الرؤى وتحديد المفاهيم المتصلة بها.
التوتر في جنوب لبنان لا يحيد بطبيعة الحال عن هذا النقاش، أو قل الجدل، لا بل هو بمثابة امتداد للسجالات التي تندلع بصورة شبه يوميّة في البلاد حول العشرات من القضايا والملفات وغالباً ما تبقى من دون حلول. ومقاربة الواقع الساخن جنوباً لا تنفك عن مقاربة القضايا الأخرى الشائكة التي شهدت نقاشات تاريخيّة حول هوية لبنان العربيّة ودور لبنان في المنطقة والموقف من قضيّة فلسطين، امتداداً إلى مسائل أخرى مثل الصيغة الداخليّة وتوزيع السلطة (ومغانمها) وسجالات الصلاحيّات والدستور والأصول.
وإذا كانت المواقف السياسيّة المنقسمة حيال التطورات الجنوبيّة تتصاعد وتيرتها مع تسخين المناطق الحدوديّة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وعلى ضوء غياب الأفق السياسي لإنهاء الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة وربط الجبهة الجنوبيّة بها؛ فإنّ ذلك لا يتيح إطلاق حملات التخوين والاتهام بالعمالة وهي معزوفة قديمة وممجوجة ومعيبة بحق اللبنانيين في ما بينهم، ولو أنّ لحظات التضامن الوطني يفترض أن تسمو فوق كل الخلافات في هذه اللحظة الحساسة التي تمر بها المنطقة وتالياً يمر بها لبنان.
الواقع الجنوبي صعب وصعب جداً، ومعاناة أهالي الجنوب المتكررة منذ سنوات طويلة، لا بل عقود، لا بد أن تؤخذ في الحسبان، وكذلك مصلحة لبنان العليا لناحية تلافي الانغماس في حرب لا طاقة له على احتمالها، ولن يجد من يدعمه للخروج من آثارها المدمرة في حال وقوعها، خصوصاً أنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يخفي حقده التاريخي على لبنان ولا يتوانى في تكرار مواقف التهديد والوعيد من على الجانب الآخر من الحدود.
الرأي القائل بأنّ توسع الحرب وخروجها عن السيطرة ليس وارداً والدليل «انضباطها» بشكل أو بآخر خلال الأشهر الماضية ضمن حدود معيّنة (رغم الخسائر البشريّة الفادحة والتدمير الكبير)، لا يمكنه الركون تماماً إلى ثبات هذا الموقف على ضوء التجارب التاريخية مع إسرائيل التي لن تتوانى عن شن حرب مسعورة ضد لبنان تماثل الجرائم التي تقوم بها في قطاع غزة والضفة الغربيّة والقدس والمناطق المحتلة الأخرى.
صحيحٌ أنّ «الانتصار» بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، أي وفق قاموس الحروب العسكريّة لا يمكن أن يُكتب لإسرائيل لأنّ مشروعها مناهض للحق والمنطق والتاريخ، ولكن- في الوقت ذاته- لا يمكن الاستخفاف بالعقل التدميري والعنصري الإسرائيلي الذي يريد الانقضاض على كل محيطه لحماية الكيان وتوسيعه حيث أمكن إحياء لمشروع «إسرائيل الكبرى» الذي لطالما راود الصهيونيين الأوائل منذ منتصف الأربعينات في القرن الماضي.
لبنان على خط النار، واللعب على حافة الهاوية دونه مخاطر كبرى، وقد يؤدي إلى نتائج كارثيّة، وفي الوقت عينه الاستسلام لإسرائيل يعني المزيد من الانتهاكات للسيادة اللبنانيّة. بين هذين الحدين، ثمة مساحة وسطى لا تتوفر إلا من خلال خطة دفاعيّة وطنية تحمي لبنان بالاستفادة من طاقات جميع أبنائه. على أمل أن تحين لحظة نقاشها قريباً.