ستكون هناك انعكاسات بالغة الأهمية للاجتياح الذي سينفذه الإسرائيليون لمدينة رفح بعد تهجيرها، وهي ستتعدى غزة إلى ساحات الشرق الأوسط كلها، إذ ستؤدي إلى إحداث تبديل في توازنات القوى الإقليمية، يرغب الإسرائيليون في تحقيقه.
بدأت حركة «حماس» إظهار ليونة في التعاطي مع المساعي المبذولة لوقف النار وإتمام صفقة جديدة للتبادل. ولكن، في المقابل، لا يُظهر الإسرائيليون استعداداً لتقديم أي تنازل، ويوحون أنّ ملف الرهائن والأسرى الباقين في أيدي الحركة لا يهمهم بمقدار الإنجازات العسكرية والسياسية الاستراتيجية التي نضجت في رأيهم، ولا يجوز تفويت الفرصة لقطف ثمارها، أي التخلّص لا من «حماس» فحسب بل من قطاع غزة بالكامل، وربما من الضفة الغربية أيضاً.
في رأي المحللين أنّ إسرائيل ستؤجّل حل ملف الأسرى إلى ما بعد الانتهاء من العمليات العسكرية وفتح باب التفاوض. فحينذاك، ستحتاج «حماس» إلى المبادلة لتحرير آلاف الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية. ولذلك، لا شيء يدفع بإسرائيل إلى الاستعجال وتقديم التنازلات من أجل إنجاز هذا الملف.
الخطوة التالية التي يريد الإسرائيليون تنفيذها هي تهجير السكان من رفح. وبعد ذلك، اجتياح القطاع المدمّر والجائع بسبب الحصار، ما سيجعله غير قابل للحياة. وتزامناً، ثمة مخاوف من إشعال إسرائيل شرارة حرب مماثلة في الضفة، تنطلق من المسجد الأقصى بسبب الإجراءات الأمنية التي ستفرضها هناك مع بداية رمضان، ما يجعل مناطق السلطة الفلسطينية مادة بحث على الطاولة، كما غزة.
إذا نجح الإسرائيليون في تحقيق هذه الأهداف في غزة، فستكون «حماس» قد تلقّت ضربة قاسية، لأنها خسرت ميدانها، ولو حافظت على قدراتها في شن حرب شوارع وتنفيذ عمليات خاطفة في كل مكان. وفي أي حال، هي ستكون أضعف بكثيرٍ مما كانت عند تنفيذها عملية 7 تشرين الأول. وخسارة «حماس» هي أيضاً خسارة للمحور الإقليمي الداعم لها، أي لطهران. وستكون إيران في هذه الحال قد فقدت ورقتها الفلسطينية في غزة، فيما هي لا تمتلك شيئاً في الضفة.
هذه الخسارة ستكون فادحة جداً لطهران. ولذلك، هي تُعيد اليوم قراءتها للمشهد الإقليمي كله، في محاولةٍ للحفاظ على ما تَمتلكه من نقاط قوة. ولذلك هي طلبت من حلفائها في العراق وسوريا وقف عملياتهم ضد الأهداف الأميركية، بعدما تلقّت تهديدات من واشنطن بردود قاسية.
أما في لبنان، ففتحت طهران و»حزب الله» خطوطاً مع الأميركيين، مباشرة ومن خلال الفرنسيين واللجنة الخماسية. ويتم عبر هؤلاء تبادل الرسائل غير المباشرة مع إسرائيل.
هناك «مستوى» معيّن من الحرب اختاره الإيرانيون و»الحزب» في لبنان، عنوانه «المُشاغلة» لتخفيف الضغط عن غزة. وتدرك إسرائيل أنّ الإيرانيين لا يريدون حرباً شاملة في لبنان شبيهة بالحرب هناك. ولذلك، هي تمارس معهم لعبة «حافة الهاوية»، وتستخدم ورقة توسيع رقعة الحرب لدفعهم إلى حسم خيارهم: إمّا أن يوقفوا النار تماماً وينسحبوا من بقعة الحدود وإمّا أن يقبلوا بمنطق توسيع الحرب على مَداها في اتجاه الداخل اللبناني.
بالنسبة إلى إيران، هذه الخيارات كلها مريرة. فوقف النار مرفوض ما دامت حرب غزة مستمرة. وأمّا المطالبة بانسحاب «الحزب» إلى ما بعد خط الليطاني، فقد رَد عليها السيّد حسن نصرالله بالقول إنّ نقل مجرى النهر إلى بقعة الحدود أسهل من نقل مقاتلينا. إذاً، يبقى احتمال توسيع الحرب. وإذا حصل هذا التوسيع فسيشمل الداخل في لبنان وإسرائيل على حدّ سواء. وفي أي حال، تحاول إيران تجنّب هذا الخيار تماماً، لأنّ ظروف لبنان وظروف «الحزب» لا تسمح إطلاقاً بتكرار مغامرة 2006.
البديل الذي تحاول إيران اعتماده هو ملء الوقت بالحراك السياسي والمبادرات. ولذلك، تظهر اليوم مقاربات إيجابية في المسائل اللبنانية، سواء لجهة التحضير لتسوية في الجنوب يمكن تنفيذها بعد انتهاء الحرب في غزة، أو لتسوية داخلية في ملف انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة.
ما تريده طهران اليوم لبنانياً هو إظهار تفاعلها الإيجابي مع المبادرات السياسية، لعل ذلك يحول دون انفجار حرب واسعة تكون كلفتها الخسارة في لبنان، أو خسارة لبنان، بعد خسارة غزة.