يبدو أن الوضع المتوتر في الجنوب أصبح على برميل بارود قابل للإنفجار، في حال استمر مسار التطورات العسكرية اليومية على هذه الوتيرة من التصعيد من الجانب الإسرائيلي، والذي بات يستخدم أكثر الأسلحة تطوراً، وأشدها فتكاً بالبشر والحجر.
التهديدات الإسرائيلية المتكررة ضد لبنان، تعكس حالة الإرباك في مواقع القرار في تل أبيب من جهة، وتزيد من منسوب القلق والحذر في بيروت من جهة ثانية، الأمر الذي أدّى إلى تنشيط الحركة الديبلوماسية الدولية بين الطرفين، خاصة بإتجاه لبنان، وكأنه هو الطرف الوحيد الذي يخرق بنود القرار الأممي ١٧٠١، مع التجاهل الخارجي التام للعمليات الحربية التي ينفذها الطيران الإسرائيلي، المسيَّر والحربي، في فضاء القرى الحدودية، زارعاً الدمار والخراب، وموقعاً عشرات الضحايا من المدنيين، فضلاً عن تدمير أكثر من سبعة آلاف منزل في القرى الأمامية، والتي أصيبت فيها البنية التحتية بأضرار كبيرة.
الوساطات الديبلوماسية تبلغ ذروتها هذا الأسبوع مع وصول الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت، وإستئناف إتصالاته مع المسؤولين اللبنانيين والإسرائيليين، والبحث في سُبل تبريد الجبهة الحدودية، وتطويق التصعيد الحالي، والحؤول دون الوصول إلى عتبة الإنفجار، تجنباً للإنزلاق في حرب إقليمية، لا يستطيع أحد التكهن بنتائجها الكارثية على المنطقة، وخاصة على الكيان الصهيوني، الذي يخوض أطول حروبه في غزة، وأكبرها كلفة رجالاً وعتاداً، وداخلياً ( الإنقسامات العامودية السياسية والإجتماعية)، وخارجياً(العزلة الديبلوماسية شبه الكاملة)، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الدولة العبرية.
ثمة خلل ما في إدارة المعركة الديبلوماسية من الجانب اللبناني، رغم أهمية الكلام الذي أدلى به وزير الخارجية عبدالله بو حبيب مؤخراً، عن إستعداد لبنان للتفاوض غير المباشر لتهدئة الوضع الحدودي، في الوقت الذي أكد فيه أن حرب إسرائيل على لبنان لن تكون نزهة، والبلد، رغم أزماته، مستعد لمواجهتها.
ولكن « الخلل ما» يكمن في عدم إقدام لبنان على تسليط الأضواء الكافية، على نتائج الإعتداءات الإسرائيلية اليومية على القرى الآمنة، وهدم آلاف المنازل وتخريب البنية التحتية، وإضطرار أكثر من ماية ألف مواطن جنوبي على ترك بيوتهم وقراهم، والنزوح إلى المناطق الداخلية الأكثر أمناً. في حين أن العدو الإسرائيلي ملأ الدنيا ضجيجاً بسبب المستوطنات الحدودية، ونزوح ٦٠ ألفاً من سكانها، بسب القصف الحدودي المتبادل مع حزب الله.
التقارير الأولية توكد أن الأضرار الحاصلة في القرى اللبنانية، تفوق عشرات المرات ما هو حاصل في المستوطنات الإسرائيلية، كما أن عدد الضحايا من اللبنانيين، مدنيين وغير مدنيين، يزيد عدة المرات عن الإصابات الواقعة في الجانب الإسرائيلي.
الوسيط الأميركي اموس هوكشتاين يدرك جيداً أن لبنان ليس بوارد خوض حرب مع الجانب الإسرائيلي، وأن كل ما يسعى له الجانب اللبناني هو تحرير كامل أراضيه، خاصة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ومعالجة النقاط العالقة على الخط الأزرق، والعودة إلى إتفاقية الهدنة الموقعة بين الجانبين عام ١٩٤٩، والمعترف بها دولياً.
ولبنان أعلن رسمياً، وعبر مواقف حزب الله، التقيد بإتفاقية الهدنة في غزة، التي يتم التوصل إليها في مفاوضات القاهرة والدوحة، على غرار ما حصل في الهدنتين السابقتين، بعد الإلتزام بحدود المساندة للمقاومة الفلسطينية.
ثمة من يراهن على إحتمال أن يتمكن هوكشتاين من تحقيق خطوة بإتجاه تهدئة الجبهة الحدودية، على خلفية العلاقات التي نسجها مع المسؤولين في بيروت وتل أبيب، ونجاحه في إنجاز إتفاق الترسيم البحري، بعد أكثر من عشر سنوات من مناورات «الأخذ والعطا»، والتي لم تفتح الأبواب أمام الحل المنشود، ولكن تطرف نتانياهو وفريقه الوزاري يهدد مهمة الوسيط الاميركي، الذي سبق له وزار تل أبيب مرتين منذ مطلع هذا العام، وعاد بخفّي حنين، ولم يتابع جولته بإتجاه بيروت.
الجانب الأميركي، في الوقت نفسه، ليس بعيداً عن المرحلة الجديدة من تحرك اللجنة الخماسية، ومحاولاتها تحقيق خرق في جدار الأزمة الرئاسية، وذلك بحكم عضويتها الناشطة في اللجنة، مما يسمح لهوكشتاين بالإطلالة على الملف الرئاسي، والعمل على تفكيك بعض العقبات، بالتزامن مع تبريد الوضع على الحدود الجنوبية، خاصة في حال إنجاز هدنة غزة خلال اليومين المقبلين.
المهم أن يكون اللبنانيون، سلطة وأحزاباً وقيادات سياسية، على مستوى المسؤولية الوطنية والتاريخية، في التعاطي مع تطورات هذه المرحلة الدقيقة، والمحفوفة بالمخاطر، لتمرير الإستحقاقات الداهمة، بأقل قدر ممكن من الخسائر، إذا كان من المتعذر أن نحقق كل ما نصبو إليه، في هذه الظروف المعقدة، دفعة واحدة.
فهل تنجح المساعي الديبلوماسية في إطفاء البارود المشتعل في الجنوب؟