كشف «طوفان الأقصى» عقم المفهوم الأمني الإسرائيلي الذي كان قائماً قبل السابع من تشرين الأول الماضي في مواجهة قوى المقاومة في غزة ولبنان، إذ تبيّن أن الردع الاستراتيجي، الذي كان يرتكز عليه العدوّ، لم يُجدِ في دفع المخاطر الاستراتيجية التي جسَّدها الهجوم غير المسبوق بطبيعته وتكتيكاته وتداعياته، وأن التفوّق الاستخباري لم يضمن عدم المفاجأة الاستراتيجية، بل إن الإخفاق في اكتشاف عملية اقتحام الأسوار المحيطة بالقطاع والتوغل الى المستوطنات، وصولاً الى مقر قيادة فرقة غزة، كشف كثيراً من المبالغة في الحديث عن هذا التفوق.الى ذلك، سقطت أيضاً استراتيجية إدارة الصراع وفق المفهوم السابق، إذ تبيّن أنها انطوت على مخاطر كبرى، ولم تؤثر في حافزية المقاومة ولا في تعاظم قدراتها الى مستوى شن عملية واسعة بحجم «طوفان الأقصى». والأكثر أهمية أن كل ذلك تحقق في منطقة محاصرة منذ سنوات، عمل حزب الله وإيران على إمدادها بالقدرات والخبرات والإمكانات طوال السنوات السابقة، كما أكد المسؤولون في حركة حماس. وتبقى العبرة الإسرائيلية الأهم، في هذا المسار، إعادة تقدير المخاطر التي يشكلها حزب الله عبر الحدود وتعاظم قدراته العسكرية والصاروخية، وأنه أبعد مدى وأعمق تأثيراً مما يفترضه العدو، وأن هناك عالماً من المفاجآت تنتظره من جبهة جنوب لبنان.
أدت أحداث الأشهر الخمسة الماضية الى تحولات جذرية في المفهوم الأمني بمواجهة التهديد الذي يمثّله حزب الله، سواء لجهة كونه قوة دفاع وردع في مواجهة الجيش الإسرائيلي، أو قوة هجومية تهدّد العمق الإسرائيلي بما يعزّز قوة الحزب في الردع والدفاع أيضاً. هذا التحوّل، بفعل تصدّع مرتكزات المفهوم الأمني الإسرائيلي، ظهرت ترجمته العملية في الحرب التي شنّها جيش العدوّ على قطاع غزة.
في البعد اللبناني، برز أول تداعيات هذا التحوّل إزاء حزب الله ولبنان، في الساعات والأيام الأولى التي تلت «طوفان الأقصى»، عندما طُرح شنّ هجوم مفاجئ وواسع ضد حزب الله بعد الطوفان مباشرة، ولم يجرِ تبنّيه بسبب الانقسام داخل القيادة الإسرائيلية والموقف الأميركي المعارض، بفعل التباين في تقدير نتائج هذا الخيار على إسرائيل. أما في مقابل القطاع، فحصل إجماع على الذهاب الى النهاية من أجل القضاء على حماس واجتثاث التهديد الذي تمثّله المقاومة ومنع بقاء غزة مصدراً للتهديد على أمن إسرائيل.
هكذا تأجلت المقاربة العملياتية الإسرائيلية تجاه التهديدَين اللذَين يحتلان الأولوية الملحّة لدى مؤسسات العدوّ الأمنية والسياسية، وهما: وجود حزب الله (تحديداً قوات الرضوان) جنوب الليطاني وتموضعه على طول الحدود، واستمرار تعاظم القدرات العسكرية والصاروخية للحزب، كمّاً ونوعاً، في فشل «المعركة بين الحروب» في معالجة هذا التهديد.
نتيجة التحولات في وعي مؤسسات القرار ونظرتها الى المخاطر والخيارات الواجب اتباعها، وفي ضوء ارتفاع مخاطر التمسك بالمفهوم والاستراتيجية السابقين، أصبح من المرجح (وواضحاً الآن) حصول تحوّلات في الخيارات العدوانية إزاء حزب الله ولبنان في المرحلة التي تلي، استناداً إلى تقدير قيادة العدو بأن المقاومة غير معنية بحرب شاملة في ظل الوضع الاقتصادي الذي يشهده لبنان، وتتبنّى استراتيجية تأجيل أيّ مواجهة لمنحها المزيد من الوقت لتعظيم قدراتها وتقليص الهوّة النوعية مع جيش العدوّ. وفي الإطار نفسه، (ربما) يراهن كيان العدوّ على أنّ أيّ محاولة ردٍّ رادع يبادر إليه حزب الله ينبغي أن يأخذ بالحسبان اندفاع العدوّ لإرساء معادلة جديدة على وقع المتغيرات في البيئات الاستراتيجية والعملياتية والداخلية الإسرائيلية.
في مواجهة هذه المتغيّرات، أتى دخول حزب الله في المواجهة إسناداً لغزة. إلا أن مفاعيل ذلك لم تقتصر على الساحة الفلسطينية، وإنما تركت آثارها أيضاً على المقاربة الإسرائيلية وخطط الجيش إزاء المقاومة في لبنان. وبدا حزب الله في هذا الخيار كمن بادر الى إحباط استباقي للخيارات العملياتية الإسرائيلية، وتقليص مفاعيلها وتكريس المعادلات التي حمت لبنان، عبر إعادة تأسيسها في ضوء المتغيّرات الاستراتيجية التي تشهدها البيئة الإقليمية.
فرضت المعركة الحالية إعادة تقدير المخاطر التي يشكلها حزب الله وتعاظم قدراته أكثر مما كان يفترضه العدو
في هذا المجال، برزت على وقع المعركة التي يخوضها حزب الله مجموعة من الرسائل والنتائج الأولية التي لم يعد باستطاعة العدوّ تجاهلها لدى دراسة أيّ خيارات عدوانية لاحقة ضد لبنان والمقاومة:
– إذا كان حزب الله قد بادر ابتداءً ضد جيش العدو إسناداً لغزة، فكيف سيكون موقفه عندما يكون العدوّ في موقع المبادر ضد لبنان والمقاومة… وهو معطى حُفر في وعي مؤسسات التقدير والقرار في كيان العدوّ.
– ثبت للعدوّ بالملموس أن التهويل بالحرب لم ولن يردع حزب الله عن الردّ والمبادرة. وإذا ما ثبت عقم هذا الرهان في الموضوع الفلسطيني، فالأَولى أن ينطبق ذلك على دفاع حزب الله عن لبنان.
– مجدداً أظهر حزب الله، ومعه بقية قوى المقاومة، الاستعداد لتقديم التضحيات لمنع العدو من تحقيق أهدافه، وأن الترويج لمقولة أن العدو قد «جُنَّ» ومستعد لارتكاب المجازر وسياسة التدمير الممنهج، كما فعل في غزة، لم ولن تؤثر في إرادتهم وخياراتهم.
مع ذلك، كشفت المعركة التي دخلت شهرها السادس على جبهة جنوب لبنان عمق ارتداع قادة العدو. ولا يُغيِّر في هذه الحقيقة تحقيقه بعض الاختراقات التي أكدت أيضاً ارتداعه عن انتهاج خيارات عدوانية ابتدائية. وإذا ما كان العدو قد نجح، نسبياً، في التعتيم على بعض الرسائل، فالأكثر أهمية في هذه المرحلة أن قادة العدو أصبحوا أكثر إدراكاً لمخاطر تقديراتهم الخاطئة.
في الخلاصة، تراكمت مفاعيل هذه الرسائل وآثارها على تقديرات العدو، وحسمت مسألة أن حزب الله بعد طوفان الاقصى وبعد التحولات الجذرية في خيارات العدو، أكثر صلابة وتوثباً للمواجهة. وإذا ما كان العدو يراهن على التهويل بالحرب المفتوحة، فقد كشفت المعركة أيضاً حرصه على تجنب هذه الحرب. وبذلك يكون حزب الله قد نجح في تكريس جبهة جنوب لبنان كجبهة إسناد للمقاومة في غزة، وتحوّلت بذلك الى إحدى أوراق القوة التي تستند إليها في خيارها التفاوضي، كما نجح في تثبيت وإعادة تعزيز قوة ردعه كمظلّة حماية للبنان والمقاومة.