أياً يكن ما سيؤول اليه مسار المعركة الدائرة بين المقاومة في لبنان وجيش العدو، فقد تبلورت حتى الآن وقائع تسمح بتقويم الحرب استراتيجياً. ويلاحظ الحديث المتزايد في كيان العدو، على ألسنة قادة وخبراء أمنيين، عن انجازات تكتيكية للجيش مقابل انجازات استراتيجية لحزب الله. والأهم أن أحداً من المسؤولين الرسميين وغير الرسميين لم يدَّعِ حتى الآن نجاح العدو في تحقيق انجازات استراتيجية في مواجهة المقاومة، وانما مجرد طموحات وآمال.
فرض جبهة لبنان اسناداً لغزة
على رأس الانجازات نجاح المقاومة في تحويل الحدود اللبنانية الفلسطينية، عملياً، الى إحدى جبهات قطاع غزة، واجتذاب نحو 100 ألف جندي لمواجهة «التهديد الجدي» الذي يشكّله حزب الله، ما يستدعي، وفق رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي، حشد «قوات كبيرة» و«إنشاء عائق قوي وتكثيف العمل الاستخباراتي». في المقابل، باءت بالفشل كل محاولات العدو وحليفه الأميركي، ترغيباً وتهديداً وتهويلاً، لفك الارتباط مع جبهة غزة. وتكرّس هذا الارتباط مع حسم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بأن معركة إسناد غزة مستمرة «مهما طال الوقت». ومع الأخذ في الاعتبار المحطات والمراحل التي مرت بها المقاومة، يتضح أن نجاحها في فرض جبهة لبنان كاسناد لغزة لم يكن أمراً مسلّماً به، في مواجهة التهويل الاميركي – الاسرائيلي والضغوط الميدانية والاغراءات السياسية.
جبهة استنزاف
نجح حزب الله في فرض جبهة استنزاف وضغط على العدو، وهو ما يتردد على ألسنة المسؤولين الرسميين والخبراء، ويتمثل في تهجير عشرات آلاف المستوطنين بقرار من الحكومة، وقرار عشرات آلاف آخرين الرحيل بأنفسهم، وهو أمر غير مسبوق منذ عام 1948. واقترن ذلك بتبلور ما تسميه وسائل الاعلام الاسرائيلية «حزاماً أمنياً» داخل «الاراضي» الاسرائيلية، من دون دخول بري لقوات الرضوان، وتحويل تلك المنطقة «السيادية» الى ساحة استهداف متواصل منذ أكثر من خمسة أشهر. وقد شكَّل هذا الضغط المتواصل عامل استنزاف لـ «الدولة» ولمجتمع المستوطنين وللجيش الذي فشل في توفير عنصر الحماية والامن لهم، ما أضرّ ذلك بصورة الردع الاسرائيلي. وتحوَّل هذا الاستنزاف (الذي يتسع لعناوين أخرى في الاقتصاد والامن والسياسة) الى عامل اسناد للمقاومة في غزة ودعم لأهلها، عبر ربط قيادة المقاومة توقفه بوقف الحرب على غزة وبأي اتفاق توافق عليه حركة حماس. كما انطوى على رسائل صريحة الدلالة أوضحت للعدو، بشكل عملي، المعادلة التي ستفرضها المقاومة في حال عمد الى ترجمة ما يعلنه من تهديدات تتصل بالمرحلة التي تلي في جنوب الليطاني، والتي تهدف في جوهرها الى سلب لبنان قوة الردع والدفاع في مواجهة أي اعتداءات اسرائيلية لاحقة.
ردع الحرب الشاملة
إحدى سمات هذه المعركة أنها بدأت بمبادرة حزب الله الى شن عمليات اسناد للمقاومة في غزة. وهي المرة الاولى التي تخوض فيها المقاومة معركة مباشرة تحت عنوان وشعارات فلسطينية بشكل مباشر. فيما كانت العمليات، في مراحل سابقة، في مواجهة احتلال اراض لبنانية، ورداً على اعتداءات اسرائيلية ضد لبنان والمقاومة. مع ذلك، نجح الحزب في ردع العدو عن شن حرب شاملة، رغم أن المعركة مستمرة منذ خمسة أشهر، وفرض عليه قيوداً ومعادلات أدت الى حصر المعركة في نطاق جغرافي وبوتيرة محددة، باستثناء بعض الخروقات التي لها سياقاتها. وكشفت المعركة النارية المتواصلة عن حجم قوة ردع حزب الله. ففي المراحل السابقة، كان ردعه من موقع الردّ المحض في مواجهة اعتداءات اسرائيلية ابتدائية. لكن، منذ الثامن من تشرين الاول، كان الحزب في موقع المبادر. ورغم أن ساحة النيران تشمل كل الحدود مع فلسطين المحتلة، إلا أن العدو ارتدع في المقابل عن شن حرب واسعة وشاملة على حزب الله ولبنان.
فشل استراتيجية «الردع الفعال»
تحت سقف قوة ردع حزب الله التي حالت دون حرب شاملة حتى الآن، اجترح العدو بديلاً عملياتياً أطلق عليه «الردع الفعال»، ويقوم على تكبيد حزب الله أثماناً مرتفعة لردعه عن مواصلة عملياته وفك ارتباطه مع جبهة قطاع غزة. وهذا ما أطلق عليه العدو «انجازات تكتيكية»، مكتفياً بهذا التوصيف، لأنه فشل في تحقيق النتيجة الاستراتيجية المؤمّلة منه، بالردع وفك الارتباط مع جبهة غزة والتأسيس لمعادلة تسمح له باخراج المقاومة من جنوب الليطاني. في المقابل، يقر العدو بأن حزب الله يرى في ذلك «تضحيات» على طريق النتائج الاستراتيجية التي حققها حتى الآن، كما هي حال أي مقاومة في مواجهة احتلال. بالموازاة، سبق أن أصدر الاعلام الحربي في المقاومة الاسلامية بياناً تفصيلياً يتحدث فيه عن الانجازات التكتيكية للمقاومة.
معادلات تأسيسية
رغم أن بعض المفاعيل التأسيسية للمعركة التي تخوضها المقاومة ستتضح معالمها في المرحلة التي تلي الحرب، إلا أن بعض معالمها أصبحت واضحة منذ الان. فقد تركت عمليات المقاومة آثارها على مفاهيم العدو وخياراته العملياتية. ويبرز ذلك خصوصاً في ما امتنع عن اللجوء اليه حتى الآن، رغم امتلاكه القدرات المادية والعسكرية، بعدما ردعته حسابات الكلفة والجدوى. وهو تعبير واضح عن حضور مفاعيل قدرات وارادة المقاومة في حساباته مؤسسات التقدير والقرار السياسي والامني في كيان العدو.
كشفت المعركة النارية المتواصلة عن حجم قوة ردع حزب الله
والخصوصية في هذا الأمر أنه يأتي بعد طوفان الاقصى والمجازر المهولة وسياسة التدمير الممنهج في قطاع غزة، ما يكشف عن بعض اتجاهات المرحلة التي تلي. من هنا، ينبع المفهوم الذي تبلور ازاء النتائج الاستباقية التي حققتها المقاومة وانعكاسها على مستقبل المعادلة مع لبنان، وفي ذلك احتواء بعض مفاعيل المتغيرات المفاهيمية التي استجدت في كيان العدو. يأتي ذلك على وقع مجموعة من النتائج وما انطوت عليها من رسائل، أظهرت تصميم حزب الله في مواجهة أي مساع عدوانية لاحقة، والمدى الذي يمكن أن يبلغه بما يتجاوز كل المعارك السابقة، وبأن ذروة جنون العدو وإجرامه في غزة، لم ينجح في ردع حزب الله، بل كان الأخير في موقع المبادرة والرد.
تفعيل محور المقاومة
شكل فتح جبهات الاسناد في لبنان والبحر الاحمر والعراق سوريا، بدعم الجمهورية الاسلامية في ايران، تفعيلا لمحور المقاومة في مواجهة العدوين الاسرائيلي والاميركي بشكل مباشر. وهو تطور اقليمي نوعي ستكون له ايضا تداعياته في المرحلة التي تلي، في أكثر من اتجاه، من ضمنها أن هذا الخيار – السيناريو سيكون أكثر حضوراً في حسابات الولايات المتحدة والعدو الاسرائيلي في أي خيارات عدوانية في المنطقة.
ويبقى جانب آخر من النتائج والانجازات التي ستتبلور وتتضح في نهاية هذه الحرب والمرحلة التي تليها. لكن كما حصل في كل انتصارات المقاومة السابقة سيواجه محور المقاومة حملة سياسية اعلامية تهدف الى التشكيك والتوهين باسناده للمقاومة في قطاع غزة، وينبغي أن لا يفاجأ أحد بذلك لأنه استمرار للمعركة التي كانت ولا تزال قائمة، هذا ما فعلوه في كل المحطات السابقة وسيبقى قائما في كل المراحل.
مستوطنات الشمال: الدمار يحبس الأنفاس
نشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أمس صوراً للدمار الذي ألحقه قصف المقاومة بمستوطنة المطلة قرب الحدود اللبنانية، وكتبت أن «المنظر هنا يحبس الأنفاس حيث يلوح الدمار من جميع الجهات». وقالت إن المستوطنين في الجليل «يفقدون الثقة والأمل بأن يعود عشرات الآلاف ممن تم إجلاؤهم إلى واقع مختلف عن ذاك الذي فرّوا منه». ونقلت عن مستوطنين في الجليل أن حزب الله «يقودنا في طريق نسير عليه وأعيننا مفتوحة وأقدامنا وأيدينا مقيّدة».
واستهدف حزب الله، أمس، نقطة تموضع لقوة استخبارات عسكرية للعدو في المستعمرة وأصابها «إصابة مباشرة وأوقع أفرادها بين قتيل وجريح». كما استهدف موقع المالكية بالقذائف المدفعية ومبانيَ يستخدمها جنود العدو في مستعمرات المالكية وأفيفيم ونطوعة وزرعيت وراموت نفتالي وشلومي، وقوة معادية أثناء دخولها إلى ثكنة زرعيت.
وحذّر شيكد سديه في «معاريف» مما يمكن أن يكون حزب الله قد خبّأه لمفاجأة إسرائيل، لافتاً إلى بحث أعدّه قسم الأبحاث في مركز «ألما» لدراسة التحديات الأمنية الإسرائيلية في الشمال، جاء فيه أن «لدى سوريا أنواعاً مختلفة من السلاح الكيميائي، واحتمال أن تكون نقلتها إلى حزب الله وارد، ولا يستبعد أن يستخدم الحزب هذه المواد، تكتيكياً، في المواجهة المقبلة مع إسرائيل».
بدوره، لفت اللواء احتياط في الجيش الإسرائيلي يتسحاق بريك إلى أن «من يضغط للهجوم على رفح وحزب الله لا يدرك بتاتاً الكارثة التي يمكن أن تسببها هذه الهجمات على إسرائيل. نحن في طريقنا إلى انهيار اقتصادي لأن الاعتبارات السياسية لها الأسبقية على الاعتبارات الاقتصادية».