من يتمعن في كلمات حلفاء لـ«حزب الله»، وبعضهم تاريخي في محور الممانعة، حيال ما يجري على الجبهة الجنوبية، ناهيك عن رأي الأخصام – الأعداء للحزب، يدرك الفارق الشاسع بين التأييد العارم لحرب الحزب السابقة تصدّيا لعدوان تموز 2006، وذلك اليوم في الحرب التي يخوضها الحزب على الجبهة الجنوبية.
الرأي الذي أدلى به تقصّدا الرئيس ميشال عون في مقابلة مع قناة «أو. تي. في» والذي إستتبعه رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل (وهو كلام سمعه من التقاهما في الفترة الأولى للحرب لكن من دون نشر)، وسبقهما إلى الخلاصة نفسها رئيس «تيار التوحيد العربي» وئام وهاب، وغيرهم من القوى السياسية والشعبية، هذا الرأي يجدر التوقف عنده مليا خاصة وانه صدر عن محبين للحزب ومن هم في صفه داخليا (أو كانوا كذلك حتى وقت قريب).
الواقع أن الحزب والمقاومة الوطنية في شكل عام منذ انطلاقها في وجه العدو العام 1982 ثم تحريرها الأرض الكبرى العام 1985 ثم الغالبية الساحقة من الباقي العام 2000، لم يحتاجا الى إجماع وطني، أولا لوجود الاحتلال وثانيا كون هذا الدعم لم يكن متوافرا أصلاً.
صحيح أن ذلك حصل في البدء مع مرحلة الحرب الأهلية وانخراط المقاومات المتعددة في حروب داخلية إلى جانب مقاومتها الاحتلال، ثم في مرحلة السلم الأهلي حين انحصر السلاح تقريبا في يد «حزب الله»، لكن الصحيح أيضا أن الحزب يحرص على تأييد إن لم يكن الإجماع الطوائفي في ظهره، وهو قرار اتخذه ضمن قراره الأكبر بالانخراط في النظام اللبناني السياسي.
ذلك أنه ربما لم يكن الحزب آبها لهذا التأييد حول حروبه العسكرية حتى داخل طائفته الشيعية في مرحلته الأولى، لكنه سعى جاهدا، منذ تولي السيد حسن نصر الله أمانته العامة وقبله السيد عباس الموسوي، أن يضعا حدّا للاقتتالات الداخلية والانخراط في النظام، على مراحل. وحصل الأمر بدءا من المجلس النيابي ثم تصاعديا في الحصة النيابية نفسها ومن ثم الوزارية على أثر زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري العام 2005.
لبنان مرتبط طويلاً بغزة
كانت رؤية الحزب تتمثل في الانفتاح على الطوائف الأخرى، السنية منها أولا لضرورات التوترات والديموغرافيا، ثم المسيحية، بينما اتخذ الامر تعقيدات في علاقته مع المرجعية الجنبلاطية الدرزية حتى استقرت على تعايش دقيق، علما أن الحزب احتفظ بتحالفات مع بعض القوى في كل طائفة.
شكّل تفاهم مار مخايل العام 2006 بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» نقطة تحوّل إيجابية تاريخية في العلاقة الشيعية – المسيحية، وكان يتردد دوما أن الحزب لم ينخرط في القتال ضد الحالة العونية بعد إعلان حرب التحرير العام 1989.
هي مقولة ليست دقيقة تماما كون الحزب دخل في اشتباكات محدودة مع الجيش اللبناني تحت قيادة العماد ميشال عون لكن ضمن محور قائم في وجه الأخير، وكان عون خلال منفاه يحظى باحترام لدى شرائح شيعية واسعة منها بيئة الحزب، ما سهل على عون بعدها الانفتاح على «حزب الله» وتحقيق الخرق التاريخي في العلاقة.
فعلت هذه العلاقة في تمتين الوحدة الداخلية خلال عدوان تموز 2006، ويخطئ من يظن أن الحزب يريد التفريط بهذه العلاقة، مثلما أنه يولي أهمية كبرى للساحة السنية ودارى كثيرا زعيمها الرئيس سعد الحريري ولا يزال يتمنى عودته، وآخر ما يودّه الحزب أن يعود كما كان في الثمانينيات حركة دينية معزولة ولو كانت مقاومة، قادرة على التحرير وهذا ما أثبتته الأيام بغض النظر عن دعم الطوائف لها.
اليوم يعمّ القلق الساحتين السنية والدرزية، وما يقال علنا بخفر يُسر به اعتراضا على الحرب وتوسعها باستثناء لدى القوى المتحالفة مع الحزب وتلك المقاومة، والشعور السني اليوم لا يمكن فصله عن حالة تيه يمرّ بها السنّة منذ سنوات في المنطقة عموما وفي لبنان حيث يجدون أنفسهم بعيدين عن القرار.
مسيحيا يبدو الأمر أصعب على الحزب.
فإذا كان السنّة والدروز يدورون في فلك القضية الفلسطينية منذ زمن، لا يرى المسيحيون، بفئاتهم العظمى باستثناء بعض حلفاء الحزب، معنى لتلك الحرب في أصلها وجدواها.
الحزب من ناحيته لا يتجاهل الأصوات الصادقة المعترضة على حربه، وهو يعلم تماما أنه مهما شرح خطورة الامر فإنه لن يستطيع اقناع المعترض على الحرب بجدواها. طبعا حرصه هذا لا يسقط نفسه على المعادين له المصطفين تقليديا ضد سلاحه والمطالبين بنزعه.
يروي باسيل انه في اليوم الأول من عدوان 2006 «كنا قلّة وننتظر الغارة علينا في أية لحظة لكننا اتخذنا الموقف الوطني في دعم المقاومة»، وهو ما فعله التيار في احتضان النازحين والذي فعله أيضا أخصام لـ«حزب الله» في السياسة مثل وليد جنبلاط وطبعا الحريري وحتى أقطاب في اليمين المسيحي.. لكنها كانت حينها حربا لبنانية لتحرير الأسرى في السجون الاسرائيلية وليست حرب وحدة ساحات طويلة شكلت مفاجأة للجميع حتى للحزب ولحركة «حماس».
هنا بالذات تكمن خطورة ما يحدث. فالحرب في غزة مرشحة لكي تطول ما يعني إسقاطا على الجبهة اللبنانية التي لن تهدأ من ناحية «حزب الله» سوى بوقف العدوان على غزة (أما من ناحية الحكومة الإسرائيلية المتطرفة فاليوم لا ضمانة بوقفها حتى لو توقف العدوان).
وفي غزة حديث عن أن غزو رفح لا مفر منه، وكل ما يُحكى غير ذلك ليس واقعياً. ويبدو الشعب الغزاوي مستعدا للقتال حتى آخر نفس على أن يرفع راية الاستسلام. على أن آخر المعطيات أن غزو رفح غير حاصل اليوم ما يعني أن حال المراوحة هذا سيطول بدوره، إلى حين تحسم الحكومة العبرية أمرها بالمضي قدما أو أن يتمكن الأميركيون من لجمها، والحالتين غير منظورتين.
الحوار لحماية الوحدة
لبنانيا، والحال ذلك، ستتعمق الفجوة بين «حزب الله» والمسيحيين، وخاصة أن الحزب لا يريد البت بالموضوع الرئاسي حتى جلاء الأمور في غزة، ما يضير المسيحيين على اختلافهم مثلما يضيرهم دعم الحزب لاستقرار حكومة تصريف الأعمال على حساب وجود رئيس مسيحي يمثلهم لا يأبه له الحزب حسبهم.
أكثر ما يُخشى هنا أن يتجاوز ذلك الاعتراض المواضيع السياسية الآنية إلى طرح المسيحيين أنفسهم لجدوى الشراكة مع المسلمين. فالفراغ على حسابهم، وهجرتهم تعمق من أقلويتهم، وقرار الحرب الذي جاء على حساب اقتصاد البلاد ليس قرارهم، والأزمة الاقتصادية التي يحمّلونها للطبقة السياسية التي حكمت منذ اتفاق الطائف ليسوا هم من ورطوا البلاد بها (أو هكذا يقولون)، ثم أن لبنان نفسه الذي شُكل لأجلهم لم يعد مغريا في الأصل للكثيرين منهم.
لذا المطلوب اليوم مراعاة هواجس هؤلاء التي تتقاطع مع هواجس اللبنانيين في العموم، والشروع في حوار حقيقي غير شكلي يقارب في الموازاة وثيقة بكركي المرتقبة بما هو أشمل من موضوع السلاح والمتعلق بالوجود المسيحي نفسه بعد أن بات هناك شبه إجماع مسيحي على رفض صيغة العيش المشترك كما هي اليوم (ولو تم نكران ذلك في العلن)، وفي المقابل يقارب الحوار دور «حزب الله» وبيئته الرافضة المس بسلاح المقاومة (بغض النظر عن القدرة على ذلك من عدمها) على أن يقارب ذلك ضمن إطار استراتيجية دفاعية تلحظ دور الدولة اللبنانية.
هذا أقل الإيمان، فالقضايا المصيرية كثيرة وتتطلب مقاربة جماعية وسط أزمة اقتصادية هي الأكبر منذ ما قبل نشوء الكيان اللبناني، ونقطة البداية لمحاولة الخروج منها اجتراح الاستقرار السياسي، مفتاح النهوض الاقتصادي، والانفتاح على الخارج لجلب الاستثمارات قبل الاتفاق على آلية لاقتصاد منتج..
سنوات طويلة تفصلنا عن كل ذلك، لكن المستقبل القريب سيشكّل الإختبار الحقيقي لنيّة الأفرقاء الكبار في التعايش المُراعي لهواجس كل فريق.. وإلّا فالكيان الهشّ الذي صُنع على عجل قبل نيّف و100 عام سيواجه تحدي الوحدة أرضاً وشعوباً.