مع كثرة التهديدات الإسرائيلية المستمرة منذ ستة أشهر، على وقع حرب غزة، ثمّة كلام يقال عن جنوح إسرائيل نحو حرب الاستنزاف مع حزب الله لأنها تؤدي إلى نتائج «مربحة» أكثر على المدى البعيد
في العادة، تعقب حرب الاستنزاف معركة عسكرية كبرى. يصبح الاستنزاف حينها، في نظر أيّ قوة عسكرية، مناسبة لإنهاك الطرف الآخر، وتشتيت جهوده وضرب بنيته تدريجاً على طريقة الموت البطيء. ما يجري في جنوب لبنان هو العكس تماماً. فمنذ ستة أشهر، تخوض إسرائيل مع حزب الله حرب استنزاف، في انتظار بدء المعركة الكبرى التي قد لا تحصل رغم التهديدات التي ترتفع وتيرتها حيناً وتتراجع حيناً آخر، كما يحصل اليوم في ظلّ تلويح متجدد بضربة كبرى.قبل الرد الإيراني على استهداف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، كانت الأنظار تتجه الى معرفة الساحة التي ستردّ منها إيران، وعمّا إذا كانت للبنان حصّة في الردّ من خلال حزب الله. وعليه، كانت ستبنى احتمالات ردة الفعل الإسرائيلية. غير أن القصف من داخل إيران لم يقلّل من هذه الاحتمالات، لأن إسرائيل كانت واضحة في رسائلها مع واشنطن ودول عربية بأن ما يجري بينها وبين إيران لا صلة له بما بينها وبين حزب الله. وهذا لا يعني فكاً للارتباط بين الطرفين بقدر ما يعني أن إسرائيل لا تزال ماضية في المسار الذي تحاول تثبيته منذ 7 تشرين الأول، بعد دخول حزب الله على خط الحرب المفتوحة في غزة. فما جرى بين إسرائيل وإيران من ردود رفعت مستوى التأهب في المنطقة وأشاعت جواً مقلقاً على مستوى أوروبا والعالم العربي، لم يلغِ أن هناك جانباً آخر من الصراع لا يزال دائراً في جنوب لبنان، وأن إسرائيل لم تتخلّ عن درس الاحتمالات التي تجعل كفّة الميزان ترجح لها.
وبما أن التهديدات الإسرائيلية ظلّت على وتيرتها خلال الأشهر الماضية، أظهرت إسرائيل أنها مصرّة على أن تتعامل مع منطقة الجنوب من منطلق أنها ساحة حرب مفتوحة متواصلة ويومية، وتنعكس مباشرة على مصالحها الآنية، لأن وجود الحزب يمثل لها تهديداً متواصلاً. في حين أن المعركة المباشرة مع إيران لها ظروفها وحيثيّاتها المختلفة تماماً. ورغم أن الكلام عن تهديد إسرائيلي لحزب الله ولبنان أخذ أخيراً طابعاً حاداً مع توقّع مواعيد له، تحدثت بعض المعلومات عن اتجاه آخر مبنيّ على سؤال أساسي: ماذا يضير إسرائيل من بقاء حرب الاستنزاف أطول مدة ممكنة بدل الذهاب الى حرب مفتوحة؟
ما تقوله المعلومات إن إسرائيل تدرس اليوم خيار حرب الاستنزاف، من دون أن تبعد ورقة المعركة الكبرى عن الطاولة. فهي بذلك تستفيد من وقائع الاستنزاف مع لبنان ككل، ومع حزب الله، في توجيه المعركة نحو الداخل اللبناني أكثر فأكثر. إذ يعيش لبنان منذ ستة أشهر على إيقاع ترددات الحرب والتساؤلات والمخاوف التي تخلق حتى من بلاغات شركات الطيران إرباكات تضاف الى تلك الموجودة. ومنذ ستة أشهر، أصبح لبنان معلّقاً على حبال الانتظار، لا امتحانات رسمية ولا انتخابات بلدية ولا أيّ تفعيل حقيقي للوضع الداخلي إلا ويبنى على أساس ما يجري جنوباً، عدا عن الوقائع الاقتصادية والتجارية، كمخزون النفط والقمح والمواد الغذائية والأدوية التي باتت مرتبطة بالتهديدات بحرب تقع بين يوم وآخر. هذا التعثر الداخلي يزداد حدّة عند كل موجة مخاوف وتهديدات يتعلق بها اللبنانيون كمواعيد فاصلة بين الأحداث الأمنية والسياسية المتتالية.
الاستنزاف قد يزيد في توجيه المعركة نحو الداخل اللبناني
وسياسياً، زاد التدهور مجدداً بين حزب الله والقوى السياسية، بما فيهم حلفاؤه، وانعكس خلافات وانقسامات وردود فعل حادّة إزاء تدخّل الحزب في الحرب، ما عزّز صورة الانهيار التام في المشهد اللبناني، الأمر الذي يثير الارتياح لدى إسرائيل، إزاء بلد أصبح مفككاً الى الحدّ الذي لم يعد يتّسع لروزنامة أحداث أمنية وسياسية متفاقمة.
وبغض النظر عن أيّ كلام يقال عن قوة الردع الموجودة لدى الحزب والتي تجعل إسرائيل تتريّث في معركتها التي تهدّد بها، إلا أن ثمة جانباً يجعل إسرائيل تزيد من حدّة الضغط العسكري في حربها الاستنزافية مع الحزب من خلال يوميات الاغتيالات والتصفيات والمعارك والتدمير الممهنج الذي يشكل ثقلاً واقعياً على الحزب. وهو ما تحاول تمديد العمل به لأشهر مستقبلية، فلا تنتهي، لا مع مفاوضات غزة ورفح وإطلاق الرهائن، ولا مع المواعيد الموضوعة للانتخابات الأميركية والتحوّلات التي ترافقها، ولا يدخلها كذلك في مفاوضات وتدخلات دولية لوقف أيّ حرب كبرى تشنّها على لبنان. وهذا الأمر يشكل لإسرائيل فرصة لإنهاك الطرف الآخر ليس كطرف حزبي فحسب، إنما كذلك كبلد، من دون بناء فرضيات على ثقل إبقاء مناطقها الشمالية خالية من سكانها. فهذا تفصيل في قاموسها الذي تروّج له يومياً عن الخدمات التي تقدّمها لهؤلاء الذين يصرّون على إبعاد حزب الله عن حدودهم الشمالية. لذا يتحوّل الكلام المتداول عن أن سقف التهديد لا يزال مرفوعاً، بقدر ما أن العمل الإسرائيلي جارٍ على رفع وتيرة الضغط العسكري. لكن الحرب قد لا تحقق لها النتائج المرجوّة التي تراها حتى الآن في لبنان.