IMLebanon

لماذا لا يخشى «الحزب» حرباً واسعة؟

 

 

ما تريده إسرائيل من حربها في غزة يختلف عمّا تريده من حربها في الجنوب اللبناني.

في العمق، هي هناك تريد إخضاع القطاع وإنهاء وضعيته شبه المستقلة، بعد تدميره وتهجير غالبية سكانه. وما هدفها الذي تعلنه، القضاء على «حماس»، سوى نتيجة ستتحقق تلقائياً وفق اعتقادها. ولذلك، إنّ إطالة إسرائيل لأمد الحرب في غزة مقصود. ففرض الوقائع وتحقيق التغييرات الاستراتيجية يحتاج إلى الكثير من الوقت، ولا يمكن تحقيقه دفعة واحدة.

 

أما في جنوب لبنان، فالإسرائيليون لا يطمحون إلى إحداث متغيّرات ديموغرافية وجيوسياسية كما في غزة، بل يسعون فقط إلى ضمان الأمن بخلق منطقة عازلة على الحدود وإبعاد مقاتلي «حزب الله» وصواريخه ومسيّراته شمالاً.

 

من جهتها، تخوض «حماس» حربها في غزة بهدف فرض نفسها إلى طاولة المفاوضات في الملف الفلسطيني. وهذا الهدف تعمل إسرائيل لإحباطه بشكل مطلق. في المقابل، «حزب الله» في لبنان يمتلك الجزء الأكبر من قرار الدولة، وهو المحاور الأساسي في كل الملفات، ومن دونه لا تمرّ تسوية لا في الجنوب ولا في الداخل. ولذلك، قتال «الحزب» مع إسرائيل ليس حرب وجود- كما حال «حماس»- بل حرب حدود.

 

وإسرائيل لا تسعى إلى القضاء على «الحزب» بل إلى إبرام صفقة معه تكفل لها أمن الشمال. ولذلك، يمكن القول إنّ «حماس» هي في وضع مصيري مثير للقلق، فيما مصير «حزب الله» مضمون، وهو مُطالَب فقط بسحب سلاحه الثقيل من منطقة الحدود لا أكثر، مقابل حصوله على أثمان يرجح أن تكرّس نفوذه في الداخل.

 

في المفاوضات الجارية حول غزة، تصرّ إسرائيل على القضاء التام على «حماس»، وتطرح استبدالها بقوى أو شخصيات فلسطينية أخرى من القطاع. وأما في مفاوضاتها مع لبنان، فهي تعرض على «الحزب»، من خلال الوسيطين الأميركي والفرنسي، ضمانات أمنية وسياسية، مقابل موافقته على التسوية. وسبق أن قدّمت إسرائيل إلى «الحزب» مثل هذه الضمانات عندما وافق على صفقة الترسيم البحري، في العام 2022. ويجزم الأميركيون لذوي الشأن في لبنان بأنّهم قادرون على منع إسرائيل من القيام بأي مغامرة كبيرة على الحدود، ما دام «الحزب» نفسه ملتزماً قواعد الاشتباك الحالية، ولا يخرج عنها إلى مغامرة غير محسوبة.

 

إذاً، «الحزب» لا يغامر، كما يعتقد البعض. بل هو يتحرك ضمن هامش واضح من المناورة في الجنوب ولا يتجاوزه. وهو يجرؤ على المضي في حرب «المشاغلة» دعماً لـ»حماس» ما دامت مضطرة إلى القتال هناك. وهو لا يخشى أن تلجأ إسرائيل إلى افتعال الصدمة الأمنية الواسعة التي تلوّح بها. وعلى مدى 9 أشهر مضت، تكرّست في الجنوب قواعد اشتباك واضحة بين الجانبين المتنازعين، على أنقاض القرار 1701. ولكن، لا يبدو أي منهما مستعداً لتحطيمها وإطلاق العنان للمغامرة، حتى اللحظة على الأقل.

 

واللافت هو استمرار إسرائيل بعمليات الاغتيال القاسية لكوادر «الحزب» ومقاتليه في تلك المنطقة، وكان آخرهم طالب سامي عبدالله ورفاقه الثلاثة. وإذا كان بديهياً أنّ «الحزب» لجأ إلى الردّ بشكل غير مسبوق، كمّاً ونوعاً، برشقات من الصواريخ نحو الداخل الإسرائيلي، فإنّ الردّ على الردّ بقي مضبوطاً، ولم يتحوّل شرارةً لحرب واسعة على لبنان، على رغم التهديدات الإسرائيلية المتكرّرة بهذه الحرب، منذ أشهر.

 

بهذا «الانضباط» الإسرائيلي يزداد «الحزب» اقتناعاً بأنّ إسرائيل ستتهيّب دائماً شن حرب واسعة على لبنان، حتى أيلول المقبل على الأقل، الموعد الذي حدّده القادة العسكريون لإعادة سكان الشمال إلى منازلهم، على أبواب العام الدراسي الجديد. وضمن هذا الهامش، يسعى «الحزب» إلى إثبات أنّه لم يُصب بأي ضعف، ولو أنّه تكبّد الخسائر الجسيمة بكوادره ومقاتليه.

 

هذه المعطيات هي التي تسمح لـ«حزب الله» بالمضي في حرب «المشاغلة» على الحدود، والاطمئنان إلى أنّ إسرائيل لن تتخطّى الخطوط المرسومة في الردّ، ولن تطلق حربها الواسعة والمدمّرة لتشمل لبنان بأسره، كما فعلت في العام 2006. وهذه المعطيات ستسمح لـ»الحزب» بالاستمرار في القتال وعدم التجاوب مع المطالبات الداخلية والخارجية بوقف الحرب.

 

بالنسبة إلى «حزب الله»، سيعني وقف الحرب على الحدود أنّه رضخ لطلب إسرائيل وأهداها انتصاراً من دون الحصول على أي ثمن. فيما هو يريد الوصول إلى وضع يتمّ فيه إنضاج تسوية في الجنوب تمنحه مكاسب أمنية وسياسية شاملة. وهذه المكاسب تستحق الثمن الذي يدفعه اليوم. وهو يعتبر أنّ وصوله قوياً إلى التسوية، بثمن مرتفع، أفضل من استسلامه المبكر والمجاني، وخروجه من طاولة المفاوضات.

 

ويدرك الإيرانيون جيداً خصوصية المواجهة التي يخوضها في لبنان حليفهم الأقوى، حيث المكاسب السياسية والأمنية التي يحققها هي مكاسب لإيران أيضاً. وفي المقابل، تبدو صعبة جداً معركة «حماس»، حليفهم الآخر في غزة، وقد يستحيل فيها الانتصار وتحقيق المكاسب. وهذا ما يعزز شعور بعض الخبراء بأنّ إيران ستتمسك أكثر فأكثر بدعم «حزب الله» في حربه الحالية. وقد يكون انتصارها في لبنان هو التعويض للخسارة المرتقبة في غزة.