ليس السؤال اليوم هو ما إذا كانت اسرائيل قادرة على تحمّل فتح أكثر من جبهة رداً على انهيار مستوطناتها وخسائرها التي لم تشهد مثيلاً لها في محيط غزة. السؤال الذي يعنينا مباشرة هو هل أنّ لبنان قادر على تحمّل فتح جبهة ضد اسرائيل عبر حدوده الجنوبية، يتولاها «حزب الله» ويزجّ فيها قواته وصواريخه وربما أفواجاً من ألوية محور الممانعة تأتي من ميليشيات «الحشد» العراقي و» فاطميي» أفغانستان وحوثيي اليمن؟
في فلسطين وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه نتيجة طبيعية لممارسات الاحتلال وسياسات حكومته الأكثر تطرّفاً، حكومة توسيع الاستيطان والقضم والضم وإنهاء أي فكرة عن احتمال قيام مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، حكومة الاستخفاف بمشاعر الفلسطينيين المسلمين وعلاقتهم بالأقصى، وحكومة البصق على المسيحيين وهم في حجهم إلى الأماكن المسيحية المقدسة. كان الأمر سيكون شديد الغرابة لو لم يحصل ما حصل.
وما جرى انطلاقاً من غزة كان تتويجاً لما حصل في الضفة الغربية. عشية هجوم فصائل غزة على المستوطنات والقواعد الإسرائيلية المحيطة كانت الضفة تغرق في اجتياحات قوات الاحتلال، وفي يوم واحد سجّل جنود الاحتلال هجمات في 7 مدن وقرى يفترض أن تكون تابعة لمشروع الدولة الفلسطينية بحسب اتفاقات اوسلو. لكن أوسلو دفنته اسرائيل مثلما اعتقدت أنّها دفنت هزيمتها في حرب 1973.
كررت فصائل غزة في هجومها تلك الهزيمة بأقسى صورها. فاجأت أجهزة المخابرات الإسرائيلية واكتسحت أراضي وأوقعت خسائر كبيرة مادية وبشرية واحتفظت بعدد ضخم من الأسرى سيكون في المرحلة اللاحقة مدخلاً لأي تفاوض وحتى لشكل صيغة التسوية التي ستحصل آجلاً أم عاجلاً . في الخلاصة إنّ الانفجار الفلسطيني في وجه اسرائيل كان محتّماً ومنتظراً. ولا يعود مهماً القول إنّ ايران هي التي تديره أو تسببت به لأهدافها. فهذا سيكون افتئاتاً على طبيعة الصراع المديد، ونوعاً من ردود الفعل البافلوفية التي تسهم في تجهيل الوقائع.
طبعاً ستحاول ايران القول إنّها كسيدة محور الممانعة تقود وتوجّه وتلهم المقاتلين في غزة وفلسطين ولبنان واليمن وسائر المشرق، وهي حريصة على هذا الدور. قادتها تولوا الحديث مباشرة إلى قادة «حماس» و»الجهاد» واستمعوا إلى «تقاريرهم» عن سير العمليات بحسب البيانات الايرانية، وهم وصلوا إلى اعتبار «طوفان القدس» محطة حاسمة على طريق ازالة الكيان الزائل…
كل ذلك يمكن فهمه في سياق المعركة التاريخية لتبني القضية وعنوانها القدس. قبل الايرانيين فعلها قادة عرب، من صدام حسين إلى حافظ الاسد مروراً بمعمر القذافي وعلي عبدالله صالح… هؤلاء جميعاً وظّفوا المأساة لتأبيد سلطتهم، وأسسوا منظمات مسلحة لتدعيم وجهتهم في التحرير فاندثروا على انقاض بلدانهم.
ستحدد الساعات والأيام المقبلة مصير المعركة التاريخية القائمة بين اسرائيل والفلسطينيين، ووحدهم الفلسطينيون هم من سيقرر الخطوات اللاحقة في الصدام أو في السياسة. لن يكون هدفهم دحر الأميركيين في غرب آسيا ولا تثبيت تعدد الأقطاب في السياسة الدولية ولا ضمان مصالح ايران في الخليج.
محمد الضيف قائد حماس في غزة كان شديد التواضع في شعاراته بعد انطلاق عمليته الناجحة، على عكس اسماعيل هنية المتحدث من الخارج، وربما هنا يكمن الفرق بين الولاء لقضية الوطن والولاء لحسابات الخارج. وفي لبنان الذي تحررت أرضه بتضحيات أبنائه، يفترض أن يسود الولاء للوطن أولاً. فقد يكون صحيحاً أنّ اسرائيل لا تتحمل فتح معركة على حدودها معه، لكن الأصح أنّه ليس مضطراً ولا قادراً على تحمل أي معركة ليس مضطراً لها، خصوصاً بعدما نهشه تحالف الميليشيا والفساد طويلاً… ولا يزال.