مع زيارة الوفد السعودي لصنعاء، دخل اتفاق بكين أولى مراحله التنفيذية بتسوية قد توقف الحرب اليمنية نهائياً. وهذه الخطوة، ستكون الفاتحة لخطوات أخرى، تضع حداً للحروب الصغيرة، الساخنة والباردة، الدائرة بين الرياض وطهران، في العراق وسوريا ولبنان. ولكن، هل إنّ طريق التوافق بين الخصمين الإقليميين مفروشة فعلاً بالورود أم تنتظرها الألغام أيضاً؟
في الدرجة الأولى، يفترض التساؤل: هل هناك متضّررون من مسار التوافق السعودي- الإيراني، ومن هم هؤلاء، وما هي القدرات المتاحة لهم كي يُحبطوا هذا المسار، وأي أساليب يمكن أن يعمدوا إليها؟
في المبدأ، هناك متضرّران أساسيان: إقليمي هو إسرائيل. ودولي هو الولايات المتحدة.
الإسرائيليون يعتبرون أنّ هذا الاتفاق يشرّع الأبواب لإيران كي تزيد من نفوذها في الشرق الأوسط وتكرّسه بالاتفاقات الضامنة، من الخليج العربي إلى شاطئ المتوسط، ومباركة الدولة العربية والإسلامية الأكبر رصيداً والأرفع رمزية، أي المملكة العربية السعودية.
وبالنسبة إلى إسرائيل، يعني الاتفاق مزيداً من التضييق عليها، إذا ما قرّرت القيام بعمل عسكري ضدّ المنشآت النووية الإيرانية. كما أنّ الانفتاح الخليجي على طهران يعني لها فرملة محتملة للمسار نحو تعميم «اتفاقات أبراهام». كما يثير مخاوفها من دخول إيران شريكاً مضارباً في النفوذ الإقليمي، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
وأما الولايات المتحدة التي تشارك إسرائيل هواجسها إزاء الاتفاقات، فإنّها مهتمة خصوصاً بما تمنحه للصين من امتيازات في الشرق الأوسط، إحدى مناطق العالم الأكثر أهمية استراتيجية.
ففي السابق، وعلى جولات عدة، وافقت الولايات المتحدة نفسها على إقامة حوارات بين السعوديين والإيرانيين، في شكل مباشر أو غير مباشر، في مسقط وبغداد وسواهما. ويعتبر الأميركيون أنّ هذا الحوار يمكن أن يكفل حدوداً معينة من الاستقرار الإقليمي الذي يحرصون عليه، ولا بأس بأي حوار ما دام يجري تحت مظلتهم.
لكن ما يجري اليوم هو أنّ الصين استفادت من حال انعدام التوازن السائدة دولياً، وانشغال الولايات المتحدة بحرب أوكرانيا، وفتور العلاقة بينها وبين المملكة العربية السعودية، لتسدّد ضربتها في الشرق الأوسط.
ففي غفلة، تحوّلت الصين من لاعب اقتصادي استراتيجي في الشرق الأوسط إلى لاعب سياسي استراتيجي، وهو ما يثير مخاوف جدّية لدى واشنطن.
لقد أرسل الأميركيون إشارات عديدة في الأسابيع الأخيرة، تعبّر عن هواجسهم من كون الصين عرّابة الاتفاق بين إيران وحليفهم الخليجي الأكبر، المملكة العربية السعودية. وهذه المسألة أحدثت زوبعة في داخل دوائر القرار الأميركية بين إدارة الرئيس جو بايدن الديموقراطية والخصوم الجمهوريين، إذ جرى اتهام الرئيس بالإهمال والتراخي والإدارة السيئة لملف العلاقات مع الصين، ما أتاح لها التعملق في شكل مفاجئ.
وكان الديبلوماسي المحنّك هنري كيسينجر، غداة اندلاع حرب أوكرانيا، من أوائل الذين أطلقوا التحذيرات لواشنطن وحلفائها في أوروبا الغربية، من مغبة الانشغال بالحرب مع روسيا، فيما العملاق الحقيقي الذي يستعد للتوثب هو الصين.
ولكن هنا، في مسألة العلاقة مع الصين، يظهر تمايز في النظرة بين الولايات المتحدة وبعض القوى النافذة في داخل إسرائيل، حيث هناك من يعتقد أنّ الساحر الصيني قادر على إرضاء الإسرائيليين وضمان مصالحهم في أي ستاتيكو للتسوية إقليمياً.
فمشروع الصين الاقتصادي، مبادرة الحزام والطريق، يأخذ في الاعتبار أيضاً ضمان موقع مطمئن لإسرائيل في الشرق الأوسط. وهذا الاستعداد الصيني لضمان موقع إسرائيل يثير قلق الولايات المتحدة. وعلى الأرجح، سيكون محور النقاش المنتظر في واشنطن بين إدارة بايدن وبنيامين نتنياهو في زيارته المتوقعة خلال الشهر الجاري.
وفي الأيام الأخيرة، جاءت دفعة الصواريخ التي وجّهتها «حماس» من الجنوب اللبناني في اتجاه إسرائيل بمثابة رسالة إيرانية إلى نتنياهو، ولكن أيضاً إلى بايدن.
لم يرد الإيرانيون توجيه الرسالة على مستوى «حزب الله» لأسباب عدة. أولاً، لأنّ أحداً لا يريد العبث بما تمّ التوافق عليه عند توقيع ترسيم الحدود في تشرين الأول الفائت، وثانياً لأنّ دخول «الحزب» على الخط يعطي المسألة حجماً لا يستطيع أحد تحمّله. ولكن، في المقابل، يدرك الجميع أنّ أي أمر لا يمكن أن يجري على الحدود خلافاً لما يريده «الحزب».
أراد الإيرانيون- والصينيون من ورائهم على الأرجح- أن يقولوا: نحن هنا، ونمتلك أوراق القوة في لبنان وقادرون على التحكّم بأمن آبار الغاز عبر المتوسط إلى أوروبا، ونستطيع إزعاج واشنطن وإرباك حليفتها إسرائيل أمنياً. ولن نسمح لأحد بإحباط مشاريعنا الطموحة في الشرق الأوسط.
إذاً، المواجهة قد تندلع ساخنة في أي لحظة، لأنّ أحداً ليس مستعداً للتخلّي عن مصالحه في الشرق الأوسط. وفي هذه المعمعة كلها، لبنان الدولة غائب عن الوعي تماماً. وهو يسلّم أمره للخارج، وليس معروفاً أي خارج، في انتظار أن يقوم الآخرون برسم مصيره.