تنقسم الآراء حول الحركة الإسرائيلية التالية بعد احتلال الجانب الفلسطيني من معبر رفح، ما أدّى عملياً الى قطع آخر شرايين التواصل مع العالم الخارجي. فالرأي الأول يتوقع استمرار العمليات العسكرية بالتدرّج وصولاً الى احتلال رفح بكاملها، وهي آخر منطقة تخضع لسيطرة حركة «حماس» في غزة. أما الرأي الثاني فيضع العملية في إطار التمهيد لولوج الحكومة الإسرائيلية مسار إعلان التفاهم على وقف لإطلاق النار والبدء بتنفيذ إطلاق الأسرى.
أصحاب الرأي الأول يعتقدون أنّ نتنياهو الذي يعمل على كسب الوقت، متفاهم مع واشنطن على ضرورة القضاء على الجناح العسكري لحركة «حماس»، وأنّ الخلاف هو على أسلوب التنفيذ ليس أكثر. ويميل «حزب الله» إلى هذه القراءة، وأنّ إسرائيل تعمل للإنتهاء من عملياتها العسكرية خلال شهرين على أن تنقل تركيزها لاحقاً الى الجبهة اللبنانية.
أما الذين يرجحون القراءة الثانية وجلّهم من عدد من العواصم العربية إضافة الى باريس، فهم يعتقدون أنّ السيطرة على معبر رفح والإطباق على كل الهوامش والأوراق الميدانية التي كانت تحظى بها حركة «حماس» ستمنح نتنياهو من جهة مزيداً من أوراق القوة لإنجاز الإتفاق مع «حماس» خصوصاً أنّه يعيش إرباكاً حقيقياً من احتمال صدور مذكرة توقيف دولية في حقه، ومن جهة أخرى تعطيه حجة إقناع قوية بوجه وزراء اليمين المتطرّف بأنّ الأهداف الأساسية تحققت، وأنّه لم يعد هنالك من سبيل سوى الذهاب الى اتفاق يكرّس هذه «الإنجازات» ويؤدي الى إطلاق الأسرى الإسرائيليين وسط ارتفاع وتيرة المطالبة الداخلية بهم.
وما يعزز وجهة النظر الثانية بقاء مدير المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز في المنطقة، وتجاوب الوفود الخمسة مع استئناف المفاوضات في القاهرة، وهو ما يوحي بوجود إيجابيات وبأنّ الأمور تسلك المسار المطلوب.
والضغوط الهائلة المفروضة على نتنياهو لم تقتصر فقط على التلويح بإصدار مذكرة توقيف دولية في حقه بل أنّها وصلت الى حدّ غير مسبوق في العلاقات الأميركية- الإسرائيلية والتي تمثلت بإرجاء الإدارة الأميركية شحنتي أسلحة وذخائر الى إسرائيل. وهذا الأمر كان يُعتبر من المحرّمات في العلاقات بين البلدين في ظروف حربية.
وأياً تكن الوجهة التي سيسلكها نتنياهو إلّا أنّه لا بّد أن يضع في حساباته أيضاً مسألة الشروط التي وضعتها السعودية لإنجاز خطوة التطبيع مع إسرائيل، والتي ستعني عملياً إقفال ملف النزاع العربي مع إسرائيل، وهو ما شكّل مطلباً استراتيجياً دائماً لتل أبيب.
وعلى بعد أسبوع، هنالك القمة العربية التي ستُعقد في المنامة. وصودف أنّها ستتزامن مع ذكرى النكبة، وهو ما سيمنحها رمزية خاصة. وستتركّز أعمال هذه القمة على عنوان «اليوم التالي» وطريقة إعادة ترتيب الساحتين الفلسطينية والعربية بعد زلزال غزة، وسيكون لبنان حاضراً بقوة في جدول الأعمال من خلال بند أساسي. وهو ما يعني أنّ جنوب لبنان والأزمة الرئاسية سيحوزان على مساحة أساسية، ومن ضمن مقررات جاري التحضير لها مسبقاً في الكواليس.
وبخلاف الأجواء الحربية الساخنة التي تظلّل جنوب لبنان وسط تحذيرات باحتمال نشوب حرب مفتوحة وواسعة خلال الشهرين المقبلين، إلّا أنّ الأوساط الديبلوماسية الأميركية لا تبدو موافقة على ذلك، ولو أنّها لا تخفي قلقها من احتمال خروج «الحرب المضبوطة» القائمة منذ «طوفان الأقصى» عن السقف المرسوم لها. فـ»حزب الله» ومن خلفه إيران لن ينزلق في هذا الإتجاه، وواشنطن حاضرة لمنع إسرائيل من تخطّي السقف المرسوم. ووفق مصادر وزارة الخارجية الأميركية فإنّ الزيارة الأخيرة لأنطوني بلينكن الى الصين شهدت طرح ملف الشرق الأوسط حيث تمّ التفاهم على التعاون لمنع حصول تصعيد واسع للعنف في الشرق الأوسط، على رغم من أنّ بكين لم تتجاوب مع الطلب الأميركي بالضغط على إيران بهدف تعديل مواقفها وسياستها «العدائية» في المنطقة. مع الإشارة الى أنّ استيراد الصين للنفط الإيراني بات يبلغ نحو مليون ونصف مليون برميل يومياً معظمه عبر السوق السوداء، ولم يعد خافياً أنّه يحصل بغض نظر أميركي. هذا على رغم من وجود من يعتقد أنّه وبعيداً عّما تعلنه القيادة الصينية، إلّا أنّ لا مصلحة جدّية وفعلية لها بإراحة واشنطن في الشرق الأوسط، لا بل فإنّ مصلحة بكين بإغراق واشنطن في الرمال المتحركة في المنطقة بغية إشغالها عن تايوان وخططها الرامية لاحتواء التمدّد الصيني على الرقعة الدولية. لكن للصين حسابات أكثر تعقيداً تلامس ضرورة المحافظة على تدفق النفط الى أسواقها، وكذلك عدم إثارة دول الخليج وعلاقتها الناشئة معها.
ولذلك، هنالك من يعتقد أنّ منسوب الحماوة المتأرجح في جنوب لبنان لا أفق جدّياً وفعلياً له لكي يذهب في اتجاه الحرب المفتوحة التي دأبت إسرائيل على التهويل بها. لا بل على العكس، ثمة معطيات واعدة في الحركة الناشطة في الكواليس.
وبعيداً من المواقف العنترية، ثمة حواجز زمنية ثلاثة تلزم الطرفين المعنيين بالحرب المضبوطة الحاصلة في الجنوب، أي إسرائيل و»حزب الله»، بالذهاب الى حلول قبل أواسط الصيف:
ـ الحاجز الزمني الأول ويتعلق حصراً بإسرائيل ويقوم على ضرورة إنجاز التسوية التي تسمح بإعادة سكان المستوطنات الشمالية الى منازلهم قبل انطلاق العام الدراسي مطلع أيلول المقبل. مع الإشارة الى الوضع الإنتخابي الصعب للإئتلاف الحاكم والاحتمالات المرتفعة بذهاب إسرائيل الى انتخابات مبكرة.
ـ الحاجز الزمني الثاني «حزب الله» معني به مباشرة، ويتعلّق بتجديد مجلس الأمن الدولي للقوات الدولية العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل). ومن المنطقي الإعتقاد أنّ المشاورات الجانبية التي ستسبق موعد الجلسة في نهاية آب المقبل ستشهد نقاشاً صاخباً وسط طروحات متشدّدة كانت واشنطن قد لمّحت اليها سابقاً، خصوصاً في ظلّ الأجواء الحربية السائدة، وفي حال لم يكن قد تمّ التوصل الى تسوية تتضمن تطبيق القرار 1701.
ـ الحاجز الزمني الثالث فهو يتعلق بالإدارة الأميركية التي ستصبح أكثر انشغالاً بالحملات الانتخابية الحامية جداً هذه المرّة، والتي من المرات القليلة التي يشكّل فيها ملف خارجي هو الشرق الأوسط بنداً أساسياً في صلب اهتمامات الناخبين. وهو ما يعني أنّ الإدارة الاميركية الديموقراطية المحشورة انتخابياً، ستضغط بقوة إن في غزة أو في لبنان، لتحقيق إنجازات سياسية يمكن استثمارها انتخابياً.
ووفق هذه التوجيهات، عادت السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون الى مركز عملها في بيروت بعد إجازة لها في واشنطن دامت ثلاثة أسابيع. وفور وصولها باشرت اتصالاتها خصوصاً مع سفراء دول المجموعة الخماسية لتحديد برنامج العمل الجديد، وذلك خلافاً لكل ما تّم ترويجه حول انتهاء صلاحية هذه المحموعة.
وأظهرت جونسون صلابة واضحة في دعوتها الى دينامية جديدة لحركة الخماسية ولضرورة إنجاز الملف الرئاسي في شهر حزيران المقبل. في الواقع من المفترض أن يجتمع سفراء الخماسية مطلع الأسبوع المقبل، ولو أنّه لم يتمّ بعد تحديد الموعد في شكل نهائي. ونُقل عنها قولها: «لدينا عمل كثير ومكثف».
ومطلع الشهر الجاري أي منذ نحو أسبوع، زار الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين باريس، حيث التقى عدداً من المسؤولين الفرنسيين الكبار ومنهم جان إيف لودريان. وبطبيعة الحال تمّ البحث في ملف التسوية في جنوب لبنان وكذلك في الملف الرئاسي، حيث أكّد هوكشتاين أنّه في عهدة السفيرة الأميركية جونسون وبالتعاون مع لودريان. بعدها زار لودريان القاهرة حيث التقى وزير الخارجية، وجرى البحث بالملف الرئاسي اللبناني. وخلافاً لاعتقاد البعض فإنّ لودريان لن يزور بيروت إلّا عندما يحصل تقدّم واضح. فالزيارة من أجل الزيارة مسألة غير واردة، ولو أنّ الأوساط المعنية ترجح مجيئه مطلع الشهر المقبل لاعتقادها أنّ شيئاً ما أساسياً سيحصل.
فرئيس الحكومة نجيب ميقاتي كان عاد من باريس وهو يردّد أمام الحلقة الضيّقة القريبة منه بأنّ التسوية الرئاسية في حزيران أو تموز على أبعد تقدير. والسفير السعودي وليد بخاري حين زار رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع قال له في وضوح أنّ الاستحقاق الرئاسي في حزيران المقبل. وغالب الظن أنّ بخاري سيردّد «نبوءته» هذه أمام وليد جنبلاط عندما سيزوره.
والأهم سلسلة الزيارات التي ستشهدها الدوحة بدءاً من 26 الشهر الجاري وصولاً الى الرابع من حزيران، أي بعد القمة العربية. وتشمل الدعوات القطرية وليد جنبلاط وقائد الجيش العماد جوزف عون وجعجع الذي سيزور الرياض بعد الدوحة. كما من المتوقع دعوة النائب جبران باسيل. لكن حصول هذه الزيارات مشروط بإنجاز اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
الواضح أنّ السفيرة الأميركية والتي باتت تمسك بملف الاستحقاق الرئاسي بتكليف من عاصمتها، تمهّد لتحرك يُخرج الخماسية من السلوك الرتيب الى سلوك أكثر حيوية واسلوب أكثر تركيزاً. ولكن ليس على الطريقة اللبنانية، أو كما كان الأسلوب الدمشقي إبان الحقبة السورية. أي أنّ الخماسية لن تطرح أي إسم، وهذا قرار جدّي ونهائي. بل أنّها ستطلب من الأفرقاء طرح ثلاثة أو أربعة أسماء وبعدها تأتي الجوجلة. وهنالك أفكار أو مقترحات عدة لتحرك المجموعة الخماسية الجديد. وقد تكون باكورة لقاءاتها مع كتلة «الإعتدال الوطني» التي كانت اعتذرت عن حضور لقاء المعارضة الاخير في معراب، لكي تحتفظ لنفسها بهامش حركتها داخلياً. وأبدى جعجع اقتناعه بعذرها.
وبذلك ثمة شعور بسعي الى إعادة ترتيب المشهد اللبناني على أسس جديدة. وكما يمسك هوكشتاين بملف الجنوب كممثل عن البيت الأبيض، فإنّ جونسون تتولّى ملف الرئاسة بإسم وزارة الخارجية وبالتنسيق الكامل مع باريس من خلال لودريان.
وفي انتظار قرار وقف إطلاق النار في غزة، سيستنسخ سفراء المجموعة الخماسية أسلوب هوكشتاين. بمعنى أنّه سيجري استغلال الوقت لإنجاز كافة ترتيبات الملف الرئاسي ليصبح جاهزاً للتطبيق فور انتظام الوضع في غزة، تماماً كما يفعل هوكشتاين الذي أنجز أكثر من 90% من ملف التسوية الجنوبية من خلال تواصله الدائم وغير المعلن مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. وفي حال لم تحصل التسوية في غزة سريعاً فلن تتأخّر عن تموز المقبل، ما يعني أنّ الصيف قد يكون واعداً هذه المرّة.