القوى الأمنيّة والأمن المفقود والسلاح المتفلّت
إنها الإنتقائية. إنه زمن لا يفطن فيه من يظنون أنفسهم أقوياء إلى مياه الينبوع إلا عند الحاجة. إننا في عمق الضاحية الجنوبية. ثمة مناطق مقفلة في لبنان على ثنائية وكثير كثير من الفوضى. هي مناطق عصيّة على الدولة لكن كلما واجهت معضلة تقول: «وينيه الدولة؟». وحين يقول آخرون: «بدنا الدولة» تتراءى قمصان سود وغزوة عائشة بكار و7 أيار وتحذيرات من نوع: أوعا تتشيطنوا… إنها مناطق تطلب الدولة A La Carte!
إرتدت الضاحية الجنوبية الأسود. فها نحن في ثالث أيام عاشوراء. ثمة رعب يسيطر. الأمن في الضاحيه مفقود. ومن يُمسكون برقاب الضاحية – ومن فيها – يستنجدون بالدولة. نضحك؟ إنها المسخرة المتجددة المتمثلة بأخذ الدولة الى رهانات عشوائية و»آه لو كنتُ أدري» وتقويض جناحيها وهدّ أوصالها وضرب علاقاتها العربية والدولية ثم القول: ليش الدولة مقصرة!
فلتان في الغبيري
ها نحن في منطقة الشياح – الغبيري. في الضاحية الإيرانية الهوى. رئيس بلدية الغبيري معن الخليل نشيط لكن ثلاثة أرباع نشاطه يذهب على تمجيد المقاومة ورفع صور وتماثيل قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني وتسمية الشوارع والجادات بأسماء: عماد مغنية والإمام الخميني وسمير القنطار وحافظ الأسد ومصطفى بدر الدين… ورفع شعار: المقاومة سرّ بقائنا. معن الخليل الذي هو «في خدمة أشرف الناس» يبدو قلقاً اليوم – أكثر من أيّ يوم آخر. هو مدركٌ أن المنطقة التي ينتمي إليها في وضعٍ غير سوي، وتحتاج الى إسفنجة، الى من يتلقى الضربات المتجددة بصدره، لذلك وجود الجيش اللبناني اليوم في الضاحية ضرورة. أما غدا فيوم آخر.
منذ ليلة السبت الماضي، في الخامس عشر من تموز الحارق هذا، وقصة الفلتان الأمني تتكرر في الغبيري، من الشياح الى المشرفيه الى حرش القتيل، فهل هي قصّة مراهنات وقمار وألعاب ميسر أم قصة قلوب مليانة؟ في خمسين ساعة تقريباً صدر عن بلدية الغبيري أكثر من خمسة بيانات تحدثت فيها عن «الأمن المتفلت وزعامات الأحياء والزواريب الضيقة والسلاح في أيدي بعض المنتفعين ولكل حيّ مرجع وديك». نفرك الأذنين. نكاد نشعر أننا نصغي الى المهاتما غاندي يتكلم عن المدينة الفاضلة. نعود ونفرك الأذنين مجدداً أكثر ونحن نسمع معن الخليل يستخدم عبارات من نوع: الأمن بالتراضي والأمن غبّ الطلب سيزيدان الأمور سوءاً. وأن من يتحمل المسؤولية الكاملة عما حصل هو القوى الأمنية التي لم تعمل لنزع مظاهر الآفات الإجتماعية والميليشياوية في أحياء الغبيري.
أين القوى الأمنية
غريبٌ كل ما حدث – وتكرر – في الساعات الخمسين الماضية. إتصلنا بمعن الخليل. صوته أكثر هدوءاً بكثير من بياناته. هو يعرف أن للمسائل مواقيت ولا شيء يحصل في بلادنا بالصدفة. لكن، سؤالنا لرئيس البلدية: ماذا عن ذنوبكم أنتم في ترك الأمور على غاربها؟ لماذا لم تمنعوا محال القمار والميسر والمراهنات منذ البداية؟ يجيب: «هذا السؤال يوجه الى وزير الداخلية. لسنا نحن من نمنح التراخيص. شرطيو بلدية الغبيري، وعددهم ثلاثون، غير مخولين حتى بحمل مسدس. أين القوى الأمنية؟ المواطن لا يرتاح إلاّ الى الدولة…». نعود لنفرك أذننا لنتأكد أننا نسمع جيداً. نعم، اللبنانيون، شيعة وغير شيعة، لا ولن يرتاحوا إلا الى وجود بندقية واحدة هي بندقية الدولة. هذا مطلب المسيحيين والسنّة والدروز أيضاً. لكن، هل دخول القوى الأمنية الشرعية الى قلب الضاحية يتم بحسب الطلب؟ يجيبنا معن الخليل: وجود «حزبُ لله» في المنطقة ليس عسكرياً بل كحزبٍ سياسي وبالتالي ليس كقوة أمنية. لذلك، نحمل المسؤولية للقوى الأمنية ووزارة الداخلية. ثمة حدود لعمل البلدية. فلتتفضّل الدولة الآن ولتوقف كل مكاتب المراهنات والقمار والتي لا نعرف كبلدية عددها. إنها تعمل في البيوت وأونلاين وتحت الدرابزين (درابزين الشرفات) وليست كازينوات لنراها. نحن نعاني من هذا التفلت منذ العام 2016 ونطلب من الدولة أن تتدخل».
السؤال البديهي هنا: ولماذا برأي معن الخليل لم تتدخل الدولة في الضاحية الجنوبية وارتكاباتها؟ يجيب: إسألي وزير الداخلية أو محافظ مدينة بيروت. سلطة هؤلاء أكبر من سلطة البلدية. نحن طالبناهم. قلنا لهم: إمنعوا الفلتان ولم نضمن بياناتنا شيئاً «ملغوماً» بين السطور. إنها واضحة وضوح الشمس. والمرتكبون أفراد وليسوا عائلات فلتتخذ بحقهم الإجراءات العقابية كاملة».
رئيس البلدية تحدث عن سلاح متفلت لكنه لم يقل: من أين هذا السلاح؟ بندقية عادية؟ هناك بيوت في الضاحية وفي سواها لا تملك حتى ثمن ربطة الخبز. ومن امتلك البندقية أيام العزّ فمن أين يأتي بالذخيرة اليوم؟ هذا إذا سلمنا جدلاً أن الأسلحة المستخدمة خفيفة لا متوسطة. نبالغ. نتذكر يوم علق معن الخليل نفسه على كلام من سماه سيّد الإنتصارات بأن «100 ألف مقاتل مع أسلحتهم المتنوعة والمختلفة جاهزون للدفاع عن ارضنا ونفطنا وغازنا» وزاد الخليل على كلام السيد: «اليوم على أقل تقدير صاروا 109378 مقاتلاً. فلا تخطئوا الحساب واقعدوا عاقلين». ترى ماذا يفعل كل هؤلاء في الوقت الضائع؟
كل واحد فاتح على حسابه
فلنبحث عن الدولة: وينيي؟ في كل مرة يبرز فيها حادث في «بيئة المقاومة» بحاجة الى سؤال وجواب، تتكرر أسماء. إسم أبو خشبه (العميد يوسف دمشق قائد جهاز حرس مجلس النواب) والمحسوبون على اسمه – ممن يقومون بتصرفات ميليشياوية مسلحة اليوم في الضاحيه – يتكرر. لا نضع في ذمتنا. في كل حال، متابع في الشؤون الأمنية الميدانية يقول: «حركة أمل أصبحت مئة شقفة (مجموعة). الجميع يقول: كلنا حركة لكن كل واحد فاتح على حسابه. ومن ينشطون اليوم في القمار بمعظمهم من «الحركة»، أو من المحسوبين عليها أو من المستقويين بها. ولعلّ بيانات بلدية الغبيري قد وجهت بمعظمها في هذا الإتجاه. الحركيون يعرفون ذلك تماماً لهذا قامت قيامتهم على الخليل على «السوشال ميديا». هناك إتهامات مباشرة في اتجاه رئيس البلدية (الحزبلاوي الهوى) بأنه هو من يلعب تحت الطاولة، وهو يفرض «خوّة» على المتاجر الكبيرة في المنطقة.
لن ندخل بين البصلة وقشرتها، بين الحزب والحركة، فليصطفلوا. لكن، المنطقة المحسوبة جغرافياً على الثنائي ليست بخير. وبحاجة حقاً الى دولة وأمن ونظام. صحيح أن بوصلة من فيها (بحسب قولهم) في اتجاه آخر. وهو ما أعلنه السيد حسن نصرالله في الشهر الثالث من العام 2015 بصراحة تحت عنوان: العبور الى سوريا، معلناً أن حدوده أكبر من لبنان. «حزب الله» إختار منذ زمن أن يكون في كل مكان لا أمن فيه. في سوريا وفي العراق واليمن وفي البحرين. هو ذهب الى تكريت تحت راية «لبيك يا رسول الله» والى سوريا تحت راية «لبيك يا زينب»… كثرت رايات الحزب راسمة حدوداً جديدة له، هي حدود «شاهنشاهي» ايران أما في لبنان، في الضاحية الجنوبية بالتحديد، فالقصّة خرجت من بين يديه. هناك من يطلّ في الضاحيه ليقول: وينيه الدولة؟
في كلِ حال، كلنا نتذكر معزوفة تطبيق الخطط الأمنية في الضاحية الجنوبية خلال عقد مضى وأكثر. ودائما كانت تنتهي الى فشل. في جمهورية الضاحية هناك دائما من يعتبر نفسه أقوى من الدولة ولا يتذكرها إلا حين يضطر الى ذلك. وكأنه كلما دق الكوز في الجرة تُرمى قبعة الساحر ويخرج أرنب يصيح: خطة أمنية في الضاحية. خطة أمنية في الضاحية… هذه المرة ثمة أرانب تنادي: بدنا الدولة. بدنا القوى الأمنية.
الأمن غير مستتبّ
تفاءلنا مرات على قاعدة: الدجاجة السوداء تضع بيضة بيضاء! لكن التجارب كانت تأتي في كل مرة: سوداء!
رجلٌ يمشي في الضاحية الجنوبية حاول أن يحسم الموضوع: «يلعن أبو الخطط الأمنية وأبو هالبلد»!
نعود الى رئيس بلدية الغبيري معن الخليل. هو دوّن حتى اليوم (البارحة) حلقتين من مسلسل التوترات الأمنية في الضاحية الجنوبية تحت عنوان: مسلسل الأمن المفقود. اشتباكات مسلحة حصلت أول البارحة في منطقة المشرفيه. البلدية تتهم القوى الأمنية مجدداً بالتقصير.
الثابت، أن انهيار الدولة معناه انتصار الدويلات. وانهيار الجيش معناه انتصار العصابات. في كل حال، وجود السلاح اللاشرعي، تحت أي مسمّى كان، يُبيح كل شيء ويجعل القمار وألعاب الميسر ربحاً لناس وملهاة لآخرين والخوف من العقاب صفر. اليوم، يطالبون بالدولة والدولة مطلوب منها اليوم أن تذهب الى الضاحية.