مع اقتراب الحرب من إنهاء عامها الأول، قفزت جبهة الإسناد الجنوبية إلى واجهة المواجهة بفعل ارتفاع حرارتها العسكرية والسياسية، على وقع تهويل إسرائيلي متجدّد بتوسيع بيكارها، الأمر الذي يتعامل معه “حزب الله” بأعصاب باردة يريد عبرها التأكيد بأنّه لا يتأثر بالضغوط مهما اشتدت.
بعد ردّ “حزب الله” على اغتيال القائد العسكري السيد فؤاد شُكر، و”ابتلاع” الكيان الإسرائيلي هذا الردّ، ساد انطباع بأنّ خطر الحرب الواسعة قد ابتعد، وأنّ الجبهة اللبنانية عادت إلى الانتظام والانضباط ضمن قواعد الاشتباك التي كانت سائدة قبل اغتيال السيد شُكر في الضاحية الجنوبية.
لكنّ عودة قادة العدو الإسرائيلي خلال الأيام الأخيرة إلى التلويح بشنّ هجوم كبير على لبنان، جدّد التساؤلات حول ما إذا كان هذا التهديد المتكرّر يندرج ضمن التهويل المعتاد والحرب النفسية المألوفة، أم أنّه يمهّد بالفعل لعدوان واسع سيكون أقرب إلى “المغامرة” بل “المقامرة” في الحسابات الإسرائيلية، خصوصاً أنّ “حزب الله” مستعد تماماً للتعامل مع أسوأ الاحتمالات، بل أنّ من شأن أي مواجهة شاملة ان تحرّره من الضوابط التي لا تزال تمنعه حتى الآن من استخدام كامل قوته العسكرية.
واللافت، انّ مسؤولي الكيان تقاطعوا في وقت واحد تقريباً عند إطلاق التهديدات ضدّ الحزب ولبنان، إذ أكّد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، انّه أصدر تعليمات للجيش وجميع قوات الأمن بالاستعداد لتغيير الوضع الراهن في الشمال، مشدّداً على أنه “لا يوجد احتمال لاستمرارنا بهذا الوضع، ونحن ملزمون بإعادة جميع سكان الشمال إلى منازلهم بأمان”. فيما قال وزير الحرب يوآف غالانت، خلال زيارته محور نتساريم في قطاع غزة، أننا نعمل على تحقيق أهدافنا ونقل ثقل المعركة إلى الشمال بسرعة. وضمن السياق نفسه، اعتبر العضو السابق في مجلس الحرب بني غانتس، أنّ ساعة الشمال دقّت ويجب ضرب لبنان إذا لزم الأمر، بينما سبق لرئيس الأركان هرتسي هاليفي أن صرّح بأنّ الجيش يستعد لخطوات هجومية داخل الأراضي اللبنانية.
كيف يتعامل “حزب الله” مع هذه المواقف الإسرائيلية، وهل يأخذها على محمل الجد؟
على الرغم ممّا تتضمّنه التصاريح الإسرائيلية الأخيرة من قرع لطبول الحرب، إلّا أنّ الأوساط القريبة من الحزب تميل إلى وضعها في إطار القنابل الصوتية التي تُسبّب الكثير من الضجيج والصخب، لكن من دون أن تكون لها مفاعيل عملية، مشيرةً إلى أنّ الوظيفة الأساسية للتصعيد الإسرائيلي الكلامي هي، على الأرجح، محاولة احتواء الغضب المتزايد في صفوف مستوطني الشمال النازحين نتيجة شعورهم بأنّهم متروكين وليسوا ضمن أولويات نتنياهو وحكومته.
لا يعني ذلك أنّ الحزب ينام على حرير هذا الاستنتاج أو التقدير للموقف، بل هو يتصرّف على أساس أنّه لا يمكنه أن يأمن جانب العدو، وانّ عليه دائماً توقّع حصول الأسوأ والاستعداد له كما لو أنّ حدوثه حتمي.
من هنا، يحرص الحزب على البقاء في أعلى جهوزية ويقظة، كأنّ الحرب الشاملة واقعة غداً، آخذاً في الحسبان أنّ نتنياهو وشركاءه في الحكومة المتطرّفة قد يرتكبون خطأ أو حماقة خارج دائرة الحسابات الموضوعية.
أمّا في المعايير المنطقية المجرّدة، فإنّ احتمال الانتقال من الحرب المحدودة إلى تلك الشاملة هو ضئيل، أقله في اللحظة الراهنة، لاعتبارات تتصل من جهة بالقدرات الدفاعية والهجومية التي يملكها الحزب ويعرفها الكيان جيداً، وترتبط من جهة أخرى بوضع جيش الاحتلال المستنزف في غزة والضفة، والذي يحتاج إلى راحة وتأهيل وفق تقديرات أميركية، قبل تكليفه بمهمّة جديدة في الشمال، إلى جانب عدم اكتمال الغطاء الأميركي بعد لخيار قلب الطاولة على جبهة لبنان.
وهناك من يلفت إلى أنّه لو كان نتنياهو عازماً حقاً على مهاجمة لبنان، لاتخذ من ردّ “حزب الله” الذي أصاب ضواحي تل أبيب ذريعة وفرصة لشنّ الحرب الواسعة المفترضة في حينه، غير انّه لم يفعل ذلك.
وعلى الرغم من أنّ التهديدات المستجدة ترافقت مع تطوّرات ميدانية ملتهبة عزّزت مؤشرات التصعيد الكبير، إلّا أنّ المطلعين لحظوا أنّ الردود المتبادلة بين العدو والمقاومة، ولو ارتفعت حدّتها ووتيرتها أخيراً، بقيت محصورة إجمالاً في نطاق قواعد الاشتباك والأهداف العسكرية، مع تسجيل بعض التجاوزات من قبل قوات الاحتلال.
وبناءً عليه، فإنّ لدى المطلعين اقتناع بأنّ المواجهات الحالية لا تزال تدور على إيقاع مضبوط إلى حدّ كبير، وهي جزء من طبيعة الحرب المستمرة منذ 8 أوكتوبر، من دون إغفال الاستثناءات التي لم تنقلب بعد إلى قاعدة.