تستمر المواجهةُ بين «حزب الله» والجيش الإسرائيلي على طولِ حدود لبنان الجنوبية، في أفق مفتوح على مزيد من التصعيد في ظل استمرار حرب غزة التي يخشى أن تطولَ وتشتد خطورتها. هل تصل الأمور إلى الحرب الشاملة على الحدود اللبنانية؟ من المستبعد ذلك على الرغم من التحذيرات الملحّة التي يحملها كبار مبعوثي الدول الغربية إلى المسؤولين اللبنانيين لنقلها إلى قيادة «حزب الله». فمثل هذه الحرب ستكون باهظة الكلفة على الجانبين. كما أنَّ طبيعة العلاقة طويلة الأمد بين أميركا أوباما – بايدن وإيران الولي الفقيه لا تتماشى قط مع مثل هذا الانفجار. ولا بد من الوصول يوماً إلى اتفاق ما، في إطار القرار الأممي 1701، أو مستوحى منه، يؤمل منه تنظيم الوضع على حدود لبنان الجنوبية، ضمن مشروع حل شامل في الشرق الأوسط، أو من دونه.
في انتظار ذلك، يراجع الطرفان؛ «حزب الله» والكيان الصهيوني، حساباتهما. ترى إسرائيل العميقة أنَّها حققت انتصاراً تاريخياً على لبنان، من دون حرب، قبل المواجهة الراهنة، عبر الدمار الذاتي للنموذج اللبناني، خصمها الثقافي والحضاري والمجتمعي والاقتصادي في المنطقة، وعلى مستوى العلاقة الحيوية بين المنطقة والغرب. يبقى عليها إبعاد «حزب الله» عن حدودها، لتأمين عودة المستوطنين، وضمان عدم وقوع ما يشبه «طوفان الأقصى» شمالاً في المستقبل، مع أنه جد مستبعد. وتأمل بعد ذلك في أن يغرق المكان اللبناني أكثر فأكثر في تناقضات جماعاته، وفي حشود النازحين إليه، وألا يقوى على النهوض من ركامه.
في موازاة ذلك، كيف ينظر «حزب الله» العميق إلى ما يجري؟ يحمل «حزب الله» همَّين اثنين؛ الهمّ الإسرائيلي والهمّ اللبناني. والثاني هو الأكثر تعقيداً.
جهة الكيان الصهيوني، أظهر «حزب الله» في هذه المواجهة قدراً لافتاً من التحدّي لإسرائيل، على الرغم من الخسائر البشرية النوعية التي مني بها والدمار اللاحق بقرى الجنوب. وتؤكدّ المواجهة مدى التطور الحربي الذي حققه خلال العشرين عاماً الماضية ضمن التعاون والدعم الكثيفين اللذين قدمتهما إيران في مختلف المجالات. ومع أنَّ الكيان الصهيوني يخوض الآن ما يشبه المعركة المصيرية، بدعم أميركي وغربي واسع، فـ«حزب الله» مدرك في العمق بأنَّ هذه المعركة ستبقى محكومة بثوابت أميركية – إيرانية تظللها، ليس فيها من مجالٍ للحسم الموجع في هذا الاتجاه أو ذاك. فهي فلسفة «فرّق تسد»، التي غضت فيها الإدارة الأميركية الديمقراطية الطرف من زمان على تطور القوة الإيرانية وتوسعها في بلدان المنطقة، لتحقيق ما يشبه التوازن بين العرب والفرس، والسنة والشيعة. وهي معادلة لن تتغيّر بين ليلة وضحاها.
أمَّا جهة المكان اللبناني، فثمة معطيات كثيرة لا بد لـ«حزب الله» من التعامل معها، قبل هذه المواجهة وبعدها. فـ«حزب الله» يحمل تناقضاً بنيوياً عميقاً بين انتمائه إلى «مشروع الأمة» في منظومة ولاية الفقيه، الذي يشكّل أولويته الاستراتيجية، وانتمائه إلى المكان اللبناني التعددي، المنفتح تاريخياً على الغرب والحداثة، القائم على الحرية، والذي تسوده ثقافة ونمط حياة جد بعيدين عن عوالم الحزب. كيف يمكن حل هذا التناقض الجوهري حلّاً حقيقياً دائماً؟
خلال أربعين عاماً من الممارسة، اختبر «حزب الله» بنجاح المكان اللبناني، وحقق مكاسب بارزة فيه. استفاد من قوته العسكرية ومن تنظيمه الهرمي الصلب، لتطويع البيئة اللبنانية منزوعة السلاح الثقيل، وكثيرة الهشاشة بفعل تناقضات جماعاتها وتضارب مصالحها. واختبر سهولة كسب ولاء الزعامات السياسية وأنصارها والمواقع المالية والإدارية وغيرها، عبر تسهيل الحصول على الوظائف الكبرى والصغرى (من الحاجب إلى رئيس الجمهورية)، وعلى مختلف المنافع المادية والخدمات، والإسهام في طمس المخالفات والارتكابات. واختبر كيف يستطيع المستفيدون الكثر تمرير ذلك كله، بلا حرج، على بيئاتهم المتعارضة كلياً مع مشروع ولاية الفقيه، وكيف يسهل عليهم تغطيتها بشعارات مثل «الحفاظ على الوحدة الوطنية»، و«صون السلم الأهلي»، و«تجنّب الحرب الأهلية»، وما شابه ذلك من مقولات تنطلي على الجمهور المشرذم (الاتفاق الرباعي، اتفاق مار مخايل، التسوية الرئاسية…). كما اختبر الحزب ضعف ذاكرة كثير من اللبنانيين الذين يصعب عليهم الربط بين أحداث ومعطيات متباعدة زمنياً، فيلفّها ويلفّهم النسيان، كأنّ شيئاً لم يكن. وكيف يتجاوز الزمن تهماً كثيرة والتعتيم على أحداث كثيرة.
وحقيقة الأمر أنَّ مسيرة «حزب الله» الطويلة خارج مؤسسات الدولة اللبنانية وداخلها، ومسيرة الطبقة السياسية والمالية والإدارية اللبنانية، الهائلة الفساد في غالبيتها العظمى، قد قادتا بصورة منفصلة، أو متقاطعة، إلى الانهيار اللبناني، أحد أهمّ الانهيارات بالعالم في القرنين العشرين والحادي والعشرين. وبينما حمل ناهبو المال العام وأموال المودعين غنائمهم إلى المخابئ الآمنة في الداخل والخارج، من دون ملاحقة تُذكَر، حقق «حزب الله»، من جهته، الإنجازات التالية: بسط سيطرته على مساحة واسعة من «لبنان الكبير»، تشاركه فيها «حركة أمل»، تمتد من حدود لبنان الشرقية مع سوريا، المفتوح معظمها لصالحه ذهاباً وإياباً، إلى الحدود الجنوبية التي يهيمن عليها، ما يشكّل دولة فعلية عالية التسلح والتجهيز، وصلت معها إيران للمرة الأولى، بحكم التكامل العضوي ووحدة الساحات في منظومة «الثورة الإسلامية»، إلى حدود الكيان الصهيوني وإلى البحر المتوسط. كما بسط الحزب نفوذه على مؤسسات ومرافق ما بقي من دولة «لبنان الكبير»، حيث الكلمة الأخيرة له في معظم الحالات.
هل هي نهاية الفكرة اللبنانية والخصوصية اللبنانية؟ طُرِح هذا التساؤل المصيري ثلاث مرات في الزمن الحديث؛ عام 1861، وعام 1918 وعام 2005، حيث كانت الفكرة اللبنانية أمام مصير قاتم. وفي المرات الثلاث، ضمن ظروف تاريخية مختلفة، استطاعت النهوض مجدداً من ركامها. من كان يأمل عشية أحداث 2005، وهي الأقرب زمنياً، أن تنحسر بين ليلة وضحاها الهيمنة السورية المطلقة على لبنان؟ كان يبدو أن الفكرة اللبنانية قد انتهت. والآن أيضاً.
لا شك في أن حزب الله قوي عسكرياً وسياسياً تتعذَّر مواجهته في الداخل اللبناني. لكن نقطة ضعفه الكبرى ثقافية – حياتية، تكمن في تناقضه مع خصوصية المكان اللبناني، التي لا تمثلها ولا تختصرها حثالة رجال السياسة والمال والإدارة الفاسدين الذين نهبوا وطنهم. فهذه الخصوصية (التي مات على طريقها مئات آلاف الشهداء)، ترتكز إلى عوامل جغرافية وتاريخية راسخة على مدى الأزمنة الحديثة، من القرن السادس عشر إلى اليوم، يستحيل محوها، قوامها نزعة الاستقلال والحرية والتعددية والتنوير المعرفي ونوعية الحياة البشرية والانفتاح على الحداثة والعالم، والمجسدة في نمط عيش عميق التجذر، واسع الانتشار والعدوى، لا تنجو من مؤثراته حتى بيئة الثنائي نفسها. ويستمد هذا النمط قوته وديمومته من انسجامه مع حركة التاريخ.