فحوى الرسالة التي نقلها الموفد الرئاسي الاميركي عاموس هوكشتاين إلى بيروت هو: إدارة الرئيس جو بايدن تفتح أمامكم الباب، للمرّة الأخيرة، لكي تتجّنبوا المصير الأسوأ، وعليكم أن تختاروا. المهلة انتهت ومصيركم في أيديكم.
بأي ثمن، لا يريد «حزب الله» أن تتسع دائرة الحرب، لأنّ ذلك سيكون كارثياً. هو يعرف العواقب جيداً، بما في ذلك التردّدات السلبية على وضعه في الداخل اللبناني، حيث الجميع سيحمّله المسؤولية عن الكارثة المريعة، والتي ستزعزع كيان لبنان.
لكن «الحزب» اختار مستوى معيناً من التوتر لا يريد التراجع عنه، وتقتضيه المهمّة المناط بها، كجزء من المحور الحليف لإيران، وهي تخفيف الضغط العسكري عن حركة «حماس» في غزة. وهو ما يسمّيه «المشاغلة».
عند هذه النقطة الوسطى يقف «الحزب»، وهو يضبط الأعصاب لئلا يتسبب بانفجار كبير، على رغم الخسائر الموجعة التي أصابته في الأشهر الـ5 الفائتة، بالمقاتلين والكوادر والبنى العسكرية، كما أصابت بيئته وسائر البيئات في الجنوب.
المشكلة تكمن هنا تحديداً. فإذا كان «الحزب» يرى مصلحته في اعتماد هذا السقف «الوسطي» من التصعيد، فالإسرائيليون يجدون مصلحتهم في معادلة أخرى. إنّهم يستغلون خوفه من الانفجار الواسع لإجباره على قبول خياراتهم: إما أن تنأى تماماً بالنفس عن غزة وتبتعد عن الحدود مسافة تطمئننا، وإما أن نقوم نحن أنفسنا بفرض هذه المعادلة بالقوة، أي بضربات ساحقة تبدأ بالحدود وتتوسع شمالاً، ولا يُعرف مداها والأهداف التي ستشملها.
المنطق الإسرائيلي يلقى تأييد الأميركيين والفرنسيين والعرب أيضاً. ولذلك، تضغط اللجنة الخماسية على «الحزب» ليفك ارتباطه بحرب غزة، ما يكفل انتزاع أي ذريعة من يد الإسرائيليين. وهذا تماماً ما يحاول هوكشتاين التوصل إليه في جولاته كافة.
حتى اليوم، هو يصطدم بالحائط المسدود لأنّ «الحزب»، مع كامل استعداده لإنجاز خطوات عملانية يطرحها الأميركيون، كترسيم الحدود البرية في مواعيد لاحقة، لا يستطيع فك ارتباطه بـ»حماس». كما يطلق إشارات إيجابية في جوانب أخرى، إذ يلتزم الضوابط على خط الترسيم البحري، حيث الإسرائيليون يواصلون أعمالهم كالمعتاد في حقل «كاريش».
هذه الجوانب يتفهمّها الأميركيون ويراهنون على تطويرها. وبمعزل عن الحرب في غزة، هم يطمحون إلى إنجاز اتفاق بين إسرائيل ولبنان. كما يتبنون الطلب اللبناني أن تسري هدنة غزة على لبنان أيضاً. لكنهم لا يضمنون موافقة إسرائيل على ذلك.
في حكومة بنيامين نتنياهو وخارجها، هناك أصوات تقول: ستخطئ إسرائيل، في هذا المناخ، إذا فوتت الفرصة لإبعاد خطر «الحزب» نهائياً ودائماً. ويجب تسديد ضربة ساحقة له في الجنوب اللبناني تؤدي إلى «تصحير» المنطقة حتى مسافة معينة، فتصبح خالية من السكان تقريباً، وليس فقط من المقاتلين الذين يبتعدون إلى شمالي الليطاني.
المثير للقلق هو الإجماع بين القوى السياسية الإسرائيلية كافة على ضرورة «إبعاد خطر «الحزب». وهذا يجعل الخطوات التنفيذية في اتجاه هذا الهدف مسألة وقت فقط. فإما أن يلتزم «الحزب» تحقيقه من تلقاء نفسه، وإما أن تقوم إسرائيل بذلك.
يعني ذلك أنّ هوكشتاين يُجري المحاولة الأخيرة لإقناع «الحزب»، وبعدها إما أن «يزول خطره» بالمفهوم الإسرائيلي، وإما أن يبلّغ إسرائيل فشل مهّمته مرة أخرى، فتصبح يدها طليقة لتنفيذ العملية العسكرية وفرض الترتيبات الأمنية التي تريدها في الجنوب بقوة الصواريخ.
أما توقيت الضربة المحتملة، فإسرائيل تربطه بالحرب الدائرة في غزة. فإما أن يتمّ تنفيذها بالتزامن، وإما التفرّغ لها بعد انتهاء الحرب. وهذه المسألة رهن خيارات الجيش في الدرجة الأولى.
حتى اليوم، لم يكن خيار الإسرائيليين تزامن الحرب في لبنان مع حرب غزة. ربما ليس لأنّهم لا يفضّلون الحرب على جبهتين في آن معاً، بل لأنّهم يتركون المجال مفتوحاً للمفاوضات السياسية مع «الحزب» من خلال الأميركيين وسواهم.
لكن عدداً من المحللين يعتقدون أنّ إسرائيل ستنصرف إلى الحرب مع لبنان عندما تنتهي تماماً من حربها في غزة. وإذا كان هذا التقدير في محله، فمعنى ذلك أنّ الحرب في لبنان مؤجّلة لأشهر عدة، لأنّ الحرب في غزة ليست على وشك أن تنتهي، وستجري إطالة أمدها باتفاقات الهدنة، كتلك المتوقعة في رمضان.
في الحالين، يمكن الاستنتاج أنّ مهمّة هوكشتاين ستقرّر ما إذا كان لبنان مقبلاً على صفقة سياسية مع إسرائيل، تظهر مفاعيلها سريعاً، أو على حرب. وفي هذه الحال، قد تكون الحرب واردة بعد انقضاء الاستراحة النسبية المقرّرة في رمضان، أي بين منتصف الربيع ومنتصف الصيف. ومن الإشارات، أنّ الحكومة الإسرائيلية مدّدت اخلاء القرى الشمالية من المدنيين حتى تموز المقبل. والحروب التي شنتها إسرائيل على لبنان حتى اليوم كانت كلها بين آذار وتموز.