الصراع بين لبنان والعدو الإسرائيلي ليس بمُستجد، بل هو صراع وجودي يعود تاريخه إلى نشأة الكيان الصهيوني، أما الجديد فيه فيَكمُن في أن القتال الدَّائر حاليًّا جاءت شرارتُهُ بغَرَضِ مُشاغلَة الأخير إلهائه عن عِدوانه الهَمجي على قِطاعِ غزَّة، وتخفيف الضَّغط العسكري عن منظَّمتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين، واللتان لسنا بواردِ تقييمِ مدى صوابيَةِ قيامِهما بعمليَّة طوفان الأقصى التي باغتوا بها المُحتل الإسرائيلي؛ ولأني أرى أن أي نشاط عسكري أو غير عسكري في وجه المُحتل يندرج دائماً وأبداً ضمن إطار الدِّفاع المشروع طالما كان الإحتلال قائماً، فكيف الحال في ظل إمعانه في قهر الشَّعب صاحب الأرض والتنكيل به وقمعه وحرمانه من أبسطِ حقوقه المشروعة، وتماديه في خرق المَواثيقِ الدَّوليَّة وعدمِ التزامه بالقرارات الأمميَّة بما فيها قرارات مجلس الأمن الدَّولي والتي تقف الولايات المتحدةُ الأميركيَّة وبعض الدول الغربيَّة حائلاً دون اتِّخاذه لقرارات صارمة بحقِّه أو لمُجرَّد تضمُّنِها أيَّةِ إدانَةٍ أو لوم له.
إن إدانةَ مُمارساتِ الكيان الإسرائيلي تجاه الشَّعب الفلسطيني هي أقلُّ الواجباتِ المُترتِّبةِ على المُجتمع الدَّولي، دولاً ومنظَّمات دوليَّة، وأن سلوكه العسكري المُتوحِّشِ يوجبُ مساءلة كبار مسؤوليه السياسيين والعسكريين أمام المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة، أمَّا اللوم فينبغي أن يوجَّه لكلِّ من دعمه ويدعمه سياسيًّا وزوَّده ويزوده بالأسلِحة والذَّخائر وشَجَّعه ويُشجِّعه على المزيد من الأعمالِ الإجراميَّةِ وانتهاك حُقوقِ الإنسان، وساعدَهُ ويساعِدُهُ على التَّملُّصِ من تبعاتِها. وبموازاة ذلك يُمكننا توجيه اللومِ لكل من دفع بمنظَّمةِ حماس للقيامِ بعمليَّةِ طوفان الأقصى من دون التَّحسُّب لتَبعاتِها ومآلاتِها كما لردَّات الفعل الغربيَّة حِيالَها، والملامةُ تكون أكبر فيما لو ثبُت أن هذه العَمليَّةَ قد خُطِّطَ لها كفاتحةٍ لمُواجَهةٍ شاملةٍ مفتوحة على عدَّةِ جبهات، كترجمةً عمليَّةٍ لشِعارِ وِحدَةِ السَّاحات ومن ثمَّ تمَّ التَّنصُّلُ منها.
واللومُ موصولٌ لكلَّ الدُّول الغربيَّة الدَّاعمةِ له في هذه الحرب، ذلك أنه لولا دعمها السياسي والعسكري واللوجستي والمالي له لما كان بمقدوره أن يرتكِبَ ما ارتكبَهُ من شناعات تنم عن همجيَّة غرائزيَّة يندّى لها جبين الإنسانيَّة، وستبقى راسخةً في وجدان تاريخ المجتمع البشري كوصمة عار لتخاذله في لجم الغطرسة الصهيونيَّة. وأما العرب شعوباً وأنظِمَة، فليسوا بمنأى عن اللومِ أيضاً، حتى وإن كانوا فوجئوا بطوفان الأقصى، لأن انكفائهم عن دورهم في الوقوف إلى جانب فلسطين لا يبرِّرُ لهم تقصيرَهم تجاه قضيَّتها وشعبِها، ووقوفهم موقف المُتفرِّجِ أو المتخاذل عن اتِّخاذ ما يلزم من خطواتٍ لوقف المُسلسل الإجرامي للكيان الصهيوني، الذي يعتمدُ تكتيك الأرض المحروقة منهجًا، منذ ما يزيد عن مائتي يوم ضد شعب مُحاصرٍ أعزل، ولسكوتهم عن أعمال الإبادةٍ الجماعِيَّة التي تُنفَّذُ بأفظعِ الأساليبِ وأكثَرِها وَحشِيَّةً، والتي تخلَّلها الكثير من الجرائم ضدَّ الإنسانيَّة وجرائم الحرب والإرهاب والقتل جوعاً، هذا بالإضافةِ إلى تدمير معظمِ الأحياء السَّكنيَّة على شاغليها، وحرمان المدنيين من كل مقومات الحياة بما فيها الإستشفائيَّةِ والتَّربويَّةِ والاجتماعيَّةِ وليس آخرها تدمير وتلويث آبارِ المياه، وترك النَّازحين في العراء عراةً ومن دون مأوى فريسة لنيران الأسلحةِ والبرد والصَّقيع والأمطارِ طوراً ولهيب الشَّمسِ الحارق طوراً آخَر.
لم يعد بخفيٍّ على أحد أن السُّلطةَ الرسميَّةَ في لبنان لم يكن لها أي دور في تقدير مدى وجوب تَحريك الجَبهةِ على امتداد الحُدود الجنوبية، لكون قرارا السلم والحرب بيد محور الممانعة ممثَّلًا بقِيَادةُ حِزبِ الله، كما ليس لدى أيٍّ من المسؤولين اللبنانيين دور في تحديد وتيرةِ العمليَّات ومداها الجغرافي، ولا حتى نوعيَّة الأسلحة المُستعملة فيها؛ وذلك بذريعةِ أن هذه الأمور محكومة بالتَّطورات الميدانيَّة. وكأن دور المسؤولين في الدَّولة يقتصر على متابعة المُستجدات التي يتم تناقلها عبر وسائل الإعلام المرئي والمسموع بما في ذلك الفضائيَّات ومختلف الوسائطِ الإلكترونية، بما في ذلك ما يتم تناقله من مقاطع فديو وتسجيلات ومنشورات وتعليقات عبر وسائط التَّواصل الإجتماعي.
ويُستخلَصُ من سير الأعمالِ القتاليَّةِ أن القرار بإقحام لبنان في الحرب قد اتُّخِذّ بمعزلٍ عن رأي وموقف معظم المسؤولين في الدَّولة من جدوى الإنخراط في الحرب الدَّائرة، والتي سيتحمَّلُ الشَّعب اللبناني مجتمعاً وزر تبعاتِها السِّياسيَّة والعسكريَّةِ والاقتصاديَّةِ والماليَّة والاجتِماعيَّة… الخ خاصَّةً وأن لبنان ليس مُهيّئاً لخوضِ غِمارها.
كُنَّا لنُسلِّم بوجوبِ انخراطِ لبنان في الحرب لو أنها فُرضت عليه فجأة، أو لاقتناع المسؤولين فيه بجدواها في الدِّفاع عن فلسطين المُحتلَّة، أو لفعاليَّتِها في التخفيف من حدَّة ما يتعرَّضُ له الفلسطينيون في قطاع غزَّة. وكنَّا لنُسلِّمَ بصدقِ نوايا مِحوَرِ المُمانعة لو انخرطت مكوناتُهُ مُباشرةً بالأعمال القتاليَّة وفتحوا كلَّ جبهاتهم دفعة واحة وعلى مصراعيها. وربَّما سيشكِّلُ امتناعهم عن ذلك أفدح أخطائهم القاتلة لتركهم العدو يستفرد بهم الواحد تلو الآخر.
في الواقع ليس هناك لغاية الآن من معيار واضح المعالم يمكن اعتمادُهُ للوقوفِ على العواملِ التي تتَحكَّمُ بمَسارِ ووتيرةِ الأعمال القتاليَّة على جبهة لبنان الجنوبيَّة، والتي يطيب للبعضِ تسميتها بـ«مشاغلة» لاقتصارها على القصف والقصف المضاد، وتوجيه الصَّواريخ والمُسيَّرات، على الرغمِ من تفلُّت العدو الإسرائيلي من هذه الضَّوابطِ جغرافيًّا ونوعيًّا، بتنفيذه غارات جويَّةٍ في مختلف المناطق اللبنانيَّة طالت منطقة البقاع الشمالي، واغتياله لبعض المسؤولين الفلسطينيين، واستهداف قادة ميدانيين ومُقاتلين تابعين للحزب بطائرات مُسيَّرة بمحاذاةِ الحُدود وبعيداً عنها.
سقط لغاية الآن في لبنان بنتيجة هذه المُشاغلة ما يزيد عن 350 شهيداً، إضافة إلى العديد من المصابين والجرحى، هذا عدا عن الأضرار الماديَّة طالت الأملاك العامَّة والخاصَّة، والناتجةِ عن تدميرِ العديد من المنازل في مختلف القرى القريبة من الحدود اللبنانيَّة – الفلسطينيَّة. وهي تضحياتٌ جسامٌ قُدِّمت وتُقدَّم في سبيل الوطن، ولا بد لنا من الوقوف خاشعين أمام أرواح الشُّهداء الأبرارِ الذين سَقطوا بمعرض هذه المنازلة، على أمل أن يتغمَّدَهم الله بواسع رحمته ويُلهم ذويهم القُوَّةَ والصَّبرَ على تحمُّلِ ما أصابهم من كرب، من دون أن نُغفلَ معاناة المصابين وأولئكَ الذين لحقت بهم خَسائرُ مادِّيَّةِ فادِحَة تفوق قدرتهم على تحمُّلها. مع التنويه بأن لا أحد يتألم على الشُّهداء والضَّحايا بقدر ما يتألَّم عليهم ذويهم، ولا أحد يعاني من تدمير المنازل وتخريب الممتلكات أكثر من أصحابها، ولكن من حقِّ المواطنين اللبنانيين أن يسألوا عن جدوى الإصرار على الانخراط في حرب يقتصرُ الغرض منها على مُشاغلة العدو، مع احتمالِ أن تؤول إلى مواجَهَةٍ عسكَريَّةٍ واسعة، سيدفع لبنان واللبنانيون ثمنًا باهظًا لها.
وثمَّة تساؤل مشروع يطرح ذاته: لما هو مسموح لإيران أن تسعى لعدم انضمام أراضيها لساحة القتال وأن تبذلَ ما بوسعها على تنفيس حالة الاحتقان بينها وبين إسرائيل لتلافي مواجهةِ مُباشرة معها، ويُحرِّمُ المنحى ذاته على أذرُعِها والدُّول التي ينتمون إليها أي كل من اليمن والعراق ولبنان؟؟؟ هذا التَّساؤل يراودُ مخيَّلةَ مُعظمِ اللبنانيين غير المقتنعين بجدوى إتاحةِ المجال للعدو الإسرائيلي لإقحام لبنان في أتون حرب غير مُتكافئة معه، والكل يعلم علم اليقين، أن الغرب يقف خلف الكيان الصَّهيوني ويوفِّرُ له الدَّعم على كُل المُستويات وفي مُختلف المجالات. مع تأكيدنا على أهميَّةِ أن يكون اللبنانيون صفًا واحِدًا إلى جانب المُقاومَةِ في حربها مع العدو، وخاصَّةً فيما لو كانت إسرائيل هي السَّاعيةُ إليها. ولكن أليس من الأجدى في مثل هذه الحالة التَّشاور داخليًّا مع كافَّة المُكونات الوطنيَّة، والتَّفكير بخياراتٍ ومواقف قد تُجنِّبُ لبنان ومقاومتَه تبعات الحرب في عدمِ توازنِ القوى.
كل الشُّرفاء في العالم إلى جانب الشَّعب الفلسطيني، والشَّعب اللبناني متعاطف معهم ويتألَّمُ لآلامهم، ويحزن لما يتعرَّضون له من ظُلم وجور، ولكن علينا أن نُحكِّمَ عقولنا لتفادي البُكاء على الأطلال كما بكي أسلافنا، وخاصَّةً فيما لو أخذنا بعين الاعتبار الإنحياز الغربي السَّافر إلى جانبِ إسرائيل، واستسهالهم خرق المواثيق الدَّوليَّة وعدم احترام القيمِ الإنسانيَّة خدمةً لها، وتبني سياسةَ ازدِواجيَّةِ المَعايير والتَّغاضي عن الفَظاعات.
وأخلُصُ من كلِّ ذلك، لتوجيه دعوةٍ صادِقَةٍ وقبل فوات الأوان، إلى مختلف المُكونات السِّياسِيَّةِ اللبنانيَّة، سواء كانوا مُمثلين في السُّلطَةِ أم مُعارضين لها، أن يُبادروا إلى فتحِ نِقاشٍّ سِريٍّ وغير مُعلن مع قيادة المُقاومة، ينتهي بالاتِّفاقِ على مُقاربَةٍ تَحفظُ للمُقاومَةِ كرامَتها وبُنيَتَها وقِواها العَسكريَّةِ وغير العَسكريَّة، وتُجنيبُ لبنان حربًا مُدمِّرةً نستقرئ ملامِحَها مما يحصل في غَزَّة، من اعتمادٍ لتكتيك الأرض المَحروقَة، واستِهدافِ المدنيين العُزَّل، وتدمير مَساحاتٍ واسِعَةٍ من الأحياء السَّكنيَّة، وتدميرٍ مُمنهجٍ للبنى التَّحتيَّةِ الاقتصاديَّةِ والماليَّةِ والسِّياحِيَّة.
ونرى أن نشرَ وحداتٍ إضافيَّةٍ من الجيش اللبناني على امتدادِ الحدودِ الوطنيَّة الفاصلة مع فلسطين المُحتلَّةِ بضمانةٍ دوليَّةَ لا تنتقصُ من قدرِ لبنان ولا المُقاومة ولا من حَقِّها في الدِّفاع عن شعبها، وخاصَّةً فيما لو حصل ذلك بتوافقٍ مع قيادتها، أو بقرارٍ مُنفردٍ من الحُكومةِ باعتبارها المَعنيَّةِ بصَون لبنان؛ ولكون الجيش اللبناني هو المسؤولُ الأوَّلُ عن حمايةِ الحدودِ الوطنيَّة والتَّصدي لأي اعتداء خارجي؛ وإن كان الصُّمود في حروبٍ سابقةٍ اعتُبِرَ نَصراً إلهيًّا مُبيناً أليس من الأجدى اعتبار تَجنيبِ الوطن تبعاتِ حربٍ غير متكافئة لا موجب لها من قبيل النَّصر. وإذا كان لا بدَّ من المقارنة ما بين نصرٍ يتحقَّقُ بتجنُّبِ حرب غير مُتكافئة وآخرٍ على غرار انتِصار حَماس في غزَّة، فإن العقلَ يقولُ بتفضيل الأوَّل كونه مضمون النَّتائج، ويحدّ من الخسائر البشريَّةِ والماديَّة من كلي الطَّرفين.
* عميد متقاعد