IMLebanon

أسابيع الحرب أو التسوية

 

 

ليس الكلام عن نيّة إسرائيل شنّ حرب على لبنان مجرد تهويل، بهدف الضغط على «حزب الله» والسلطات اللبنانية لإنجاز اتفاق جديد يؤدي الى واقع أمني جديد في المنطقة الحدودية من خلال تطبيق القرار الأممي 1701.

فالعودة الى شريط الأحداث والتطورات إثر عملية «طوفان الأقصى» في السابع من شهر تشرين الأول الماضي، يُظهر بوضوح النوايا الإسرائيلية لتنفيذ ضربة عسكرية على لبنان. فلقد أصبح مثبتاً أنّ العديد من مراكز القرار الإسرائيلية وفي طليعتهم وزير الدفاع يوآف غالنت، اقترحوا بأن يأتي الردّ السريع على «طوفان الأقصى» عبر توجيه ضربة عسكرية لـ»حزب الله» ومن بعدها يجري التعامل مع حركة «حماس» في غزة. واستند هؤلاء الى تبريرات عدة، منها أنّ «حزب الله» هو القوة الأكبر والتي تستمد منه حركة «حماس» قدراتها.

 

وثمة تبرير آخر يتعلّق بالتحضيرات التي كان استعدّ لها الجيش الإسرائيلي منذ خسارته حرب العام 2006، ما يجعله جاهزاً لخوض هذه الحرب، بخلاف الوضع في غزة والذي فاجأ القيادة العسكرية الاسرائيلية، ما يعني أنّ معالجته العسكرية تتطلّب تحضيرات ولو لفترة قصيرة.

 

وبات معلوماً أنّ الإدارة الأميركية التي سارعت لنجدة إسرائيل بدعم عسكري كبير وكامل، أبدت معارضتها للخطوة في مقابل مساندتها لتوجيه الضربة الى «حماس» من دون حدود، والذهاب إلى «النهاية» وفق التعبير الذي استخدمه يومها الرئيس الأميركي جو بايدن. وقد سانده في موقفه هذا معظم العواصم الأوروبية وفي طليعتها باريس. ويومها عملت واشنطن على سدّ النقص الكبير في التحضيرات الإسرائيلية على غزة، من خلال المعلومات الاستخباراتية والإستطلاع والتخطيط، وبطبيعة الحال الأسلحة والذخائر المطلوبة. وللتذكير، فإنّ القيادة العسكرية الاميركية وضعت ضابطين كبيرين لديهما خبرة كبيرة بسبب حرب العراق، في غرفة العمليات الإسرائيلية، وعمدت الى إجراء مراقبة دائمة أكان من الجو أو من حاملات الطائرات في البحر، مرّة لمتابعة سير المعارك في غزة، ومرّة أخرى لتشديد الرقابة على الحدود اللبنانية مع إسرائيل لمنع حصول أي «دعسة ناقصة» من جانب إسرائيل، خصوصاً، تؤدي الى تنفيذ ضربتها في لبنان.

ورغم ذلك عادت نغمة الحكومة الإسرائيلية لتتصاعد حيال نيتها بأن تشمل الحرب لبنان. وفي هذا الوقت كانت واشنطن تجري مفاوضات وترتيبات مع إيران حول مستقبل خارطة تقاسم النفوذ السياسي في المنطقة، وفي الوقت عينه كان موفد الرئيس الأميركي آموس هوكشتاين يتفاوض مع «حزب الله» عبر الرئيس نبيه بري لترتيب الإتفاق الأمني لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، والذي يرتكز على تطبيق القرار 1701 مع بعض التعديلات. ذلك أنّ واشنطن التي كانت أقنعت إسرائيل بترك لبنان الى ما بعد انتهاء حرب غزة، أملت أن يكون الاتفاق السياسي حول الحدود اللبنانية هو البديل المجدي عن حصول الحرب، طالما أنّ مطلب إسرائيل هو ضمانات أمنية لا أكثر.

 

لكن، مع اقتراب انتهاء العمليات الكبرى في رفح أو ما بات يُعرف بانتهاء المرحلة الثانية من الحرب وفق التوصيف الإسرائيلي، فإنّ نتنياهو وبمؤازرة بن غفير وسموتريتش، يطرحون بدء المرحلة الثالثة، والتي تتضمن من جهة ترتيبات الحكم في غزة والضفة من جهة، والبدء بالعملية العسكرية على لبنان من جهة أخرى. إلّا أنّ إدارة بايدن لا تبدو متوافقة مع رؤية الحكومة الإسرائيلية لكامل المرحلة الثالثة، لا في غزة حيث يرفض نتنياهو أي حضور فلسطيني، ولا في لبنان خصوصاً.

 

وبالنسبة للبنان ووفق ما يجري تداوله على نطاق ضيّق في الأوساط الديبلوماسية الغربية، فإنّ نتنياهو يصرّ على إزالة التأثير الإيراني عن الحدود الشمالية عبر العملية العسكرية التي عملت إسرائيل على الاستعداد لها طوال السنوات الماضية. وترتكز الخطة الإسرائيلية وفق ما يجري تداوله التمهيد للعملية بقصف تدميري يصل الى العمق اللبناني ويؤدي الى تقطيع أوصال المناطق ومن ثم القيام بتوغل بري الى حدود معينة، وأن يترافق ذلك مع إنزال على قمم الجبال خصوصاً لناحية بعلبك والهرمل، على أن تبدأ هذه العملية في منتصف الشهر المقبل، وأن تدوم حوالى الشهرين. ووفق هذه الرواية فإنّ إسرائيل تعتقد أنّ الأشهر الماضية والتي شهدت قصفاً إسرائيلياً للمناطق المتاخمة للحدود اللبنانية، ضمنت التمهيد للتوغل البري عبر تدمير العديد من الأنفاق والتحصينات العسكرية التي كان يمكن أن تشكّل مفاجآت عسكرية للقوة الغازية. وفي المقابل كان «حزب الله» يقوم بتدمير مراكز المراقبة والاستطلاع للجيش الإسرائيلي لضرب إمكانيات قيامه بأي غزو عسكري.

 

ولذلك تبدو إسرائيل بحاجة ماسّة للمساندة الأميركية في مجالين: الأول من خلال الاستعانة بالتكنولوجيا المتطورة جداً على صعيد الاستطلاع والمعلومات والمؤازرة، خصوصاً لناحية الكلام عن إنزال عند قمم الجبال شمال البقاع، والثاني بالحصول على الأسلحة والذخائر المناسبة وخصوصاً قنابل الـ2000 رطل القادرة على التدمير، وتلك المخصّصة لاختراق باطن الأرض، حيث تعتقد اسرائيل أنّه جرى تخزين الصواريخ الدقيقة فيها.

 

ولأنّ واشنطن كانت ولا تزال تعارض قيام إسرائيل بعملية عسكرية واسعة في لبنان، فهي أوقفت تسليم إسرائيل ما تطلبه من قنابل وأسلحة. وهذا ما أدّى الى صدام سياسي بين تل أبيب وواشنطن.

 

ووفق ذلك، فإنّ الزيارة التي بدأ بها وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالنت الى واشنطن تبدو نتائجها مهمّة. وهو قال قبل إقلاع طائرته بأنّ نتائج هذه الزيارة حاسمة لمستقبل الحرب في غزة ولبنان. وأضاف بوضوح، بأنّه ذاهب للبحث في الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب، وأنّه سيعمل لإقناع واشنطن بالإفراج عن شحنة القنابل الثقيلة. ولا حاجة لتفسير كلامه، فهو ذاهب لإزالة المعارضة الأميركية على المشروع الإسرائيلي في لبنان وطلب المؤازرة والمساعدة الاستخباراتية واللوجستية. وتراهن الحكومة الإسرائيلية في نجاحها بإقناع الإدارة الأميركية على الواقع الضعيف الذي باتت ترزح تحته إدارة بايدن، خصوصاً أنّ موعد فتح الصناديق يقترب وبايدن يبدو محشوراً جداً، وهو بحاجة ماسّة الى إنجاز خارجي يعمد الى استثماره انتخابياً. بدليل أنّ إدارة بايدن القلقة أصلاً من انتقام ترامب بعد عودته الى البيت الأبيض، بدت مرتعبة إثر التسجيل الذي أجراه نتنياهو، متهماً إدارة بايدن بحجب الأسلحة عن إسرائيل. فهو يدرك أنّ هذه الصرخة ستؤثر سلباً حتى على اليهود الأميركيين الذين يعارضون نتنياهو.

 

لكن الإدارة الأميركية ليست العائق الوحيد أمام الاندفاعة الحربية المجنونة لنتنياهو باتجاه لبنان. فهنالك جزء أساسي داخل قيادة الجيش أبلغ نتنياهو معارضته لعملية من هذا النوع لأسباب عسكرية بحتة، وخشية أن يُمنى الجيش الإسرائيلي بهزيمة ثانية على يد «حزب الله».

 

فوفق هؤلاء، فإنّ الجيش منهك بعد حرب الأشهر الثمانية في غزة، وهو بحاجة لفترة من الراحة من أجل إعادة تأهيل ألويته الهجومية بعد إعادة بنائها من جديد، وهو ما يحتاج الى فترة سنتين الى ثلاث. لكن التسريبات أشارت الى رفض نتنياهو لذلك وإلى نوبات غضب، وهو ما يفسّر ما نقلته الصحافة الإسرائيلية قوله خلال إحدى نوبات غضبه: اسرائيل دولة لديها جيش وليست جيشاً له دولة.

 

لكن من يراقب أداء الجيش الإسرائيلي في رفح يلحظ فوراً علامات الإنهاك لدى الجيش الإسرائيلي. فهو بات يقوم فوراً بتدمير مداخل الأنفاق التي يكتشفها عوض أن يعمل على التمهل واستكشاف من يوجد بداخلها، خصوصاً أنّه لا يزال لإسرائيل أسرى بالعشرات لدى «حماس».

ومن هنا، يمكن قراءة الرسائل النارية لأمين عام «حزب الله». فهو أراد أن يستعرض «عضلات» «حزب الله» الهجومية (الوصول إلى الجليل) وإمكانياته العسكرية (الصواريخ والعديد) وعدم وضع أي سقف للردّ العسكري ( من دون ضوابط أو سقوف أو قواعد) وقدراته ومفاجآته (إطلاق المسيّرات الى العمق). هي رسائل من ضمن الحرب النفسية بالتأكيد، ولكنها تأتي في الإطار الردعي أيضاً، خصوصاً أنّها تزيد من تردّد بعض القادة في الجيش الإسرائيلي.

 

وكذلك، فإنّ التهديدات حول الملاحة في البحر المتوسط والقواعد البريطانية في قبرص، قد تكون لها علاقة بإمكانية استخدامها لأغراض المساندة لعمليات الإنزال.

 

وثمة رسائل أخرى حملها كلام نصرالله، وهي كما فسّرتها مصادر أوروبية، بأنّها رسائل أمتعاض إيرانية من الثلاثي الأوروبي حول الملف النووي عبر بريد «حزب الله» وقبرص.

 

ففرنسا وألمانيا وبريطانيا تدعم بقوة إصدار إدانة بسبب مخالفات إيرانية في موضوع تخصيب اليورانيوم. وهو ما يعني المزيد من الأعباء الإقتصادية، في وقت حذّر فيه رئيس الطاقة الذرية الايرانية محمد إسلامي بأنّ ايران ستردّ في حال صدور قرار ضدّها. وقد يكون هذا ما دفع بواشنطن الى السعي لثني الثلاثي الأوروبي عن دعم هذه الخطوة، خشية دفع إيران للتصعيد. وقد يكون هنالك سبب آخر غير معلن ويتعلق بالمفاوضات الدائرة مع إيران حول ترتيبات المنطقة ورسم خارطة النفوذ الجديدة.

 

وخلال زيارته الى بيروت، لم يتردّد وزير الخارجية الإيراني الجديد بالإعراب أمام المسؤولين اللبنانيين عن استياء بلاده من فرنسا. هو تعمّد اطلاق موقفه أمام مسؤولين لبنانيين معروفين بعلاقتهم القريبة من باريس، وأيضاً تعمّد انتقاء بيروت كمكان لتوجيه رسالته الغاضبة. وجاءت رسالة السيد حسن نصرالله في السياق نفسه، ولكن بمضمون متفجّر.

 

ويبدو أنّ الثلاثي الأوروبي قد تلقّف الرسالة وتعامل معها ببرودة، ولو أنّ المفوضية الأوروبية ستُصدر بياناً في هذا الشأن.

 

وليس سراً أنّ إيران تعاني اقتصادياً جراء العقوبات عليها، ما رفع من منسوب الامتعاض الشعبي خصوصاً لدى الفئة الشبابية. ومن يتابع المناظرات الرئاسية في إيران يلاحظ فوراً بأنّ خطابات المرشحين ركّزت في الدرجة الأولى على الاقتصاد ومشاكله، ما جعلهم يطلقون وعوداً بالسعي لرفع العقوبات وإجراء إصلاحات، ولو من دون تقديم خارطة طريق لتحقيق ذلك.

 

ويمكن أيضاً ملاحظة البرودة لدى الشارع الإيراني في التفاعل مع الانتخابات الرئاسية، حتى مع وجود مرشح ينتمي للجناح الإصلاحي. فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية في العام 2017 حوالى 73% حين فاز يومها حسن روحاني، في حين انخفضت في انتخابات العام 2021 الى حوالى 49% حين فاز رئيسي. أما اليوم فالترجيحات تتحدث عن نسبة مشاركة أدنى. وهو ما يعني أنّ السلطات الإيرانية لا تحتمل «الزكزكة» والمزيد من الضغط.

 

في المحصلة، ثمة أسابيع معدودة قد تكون الأشدّ خطراً مع إصرار إسرائيل على البدء بالمرحلة الثالثة على أن تشمل لبنان حرباً.