النقاش المُتعثّر حول السردية الفُضلى للمقاومة لما يجري على الجبهة الجنوبية لا يلغي حقيقة ما يحصل على الأرض. ثمّة وجع بات يتجاوز الحدود التكتيكية، ويُلامس نقطة تفوق استراتيجية تميّز بها العدو، وهي قاعدة التحكم بقواعد اللعبة. وهذا هو السبب الذي يدفع قادة الاحتلال إلى رفع الصوت، وإظهار الاستعداد الجدّي لرفع مُستوى المُواجهة مع لبنان، لفرض وقائع تنعكس على من يمسك بقواعد المعركة.لا يقين لدى أحد حيال الآتي من الأحداث الميدانية. الحل الوحيد المُتاح هو وقف إسرائيل الحرب على غزة، فتتوقف الحرب مع لبنان. وعندها سيُصار حكماً إلى صياغة تصوّر جديد لتطبيق القرار 1701. ولكنْ، هناك فرقٌ بين أن يعمل الجميع وفق القراءة الإسرائيلية للقرار الدولي، والعودة إلى ما كنا عليه قبل 7 أكتوبر. وأي تعديل جذري يريده العدو، لا يمكن تحصيله بغارات عسكرية مهما توسّعت.
لذلك، وجبت الخشية من نيات العدو، لأن ما تُريد إسرائيل تحقيقه يتطلّب عملية كبيرة جداً، بل يتطلب في الواقع حرباً شاملة، وهي حرب لا يملك أحد التصوّر الدقيق لمُجرياتها. وإذا كان العدو يُراهن على أن صورة الدمار والموت في غزة صارت حاضرة في وعي اللبنانيين، ناساً ومقاومة وقيادات عسكرية وسياسية، إلا أن مُجريات حرب شاملة لا يتحكّم فيها طرف واحد، فكيف، والكل يعرف وفي مقدّمهم العدو، أن لدى المقاومة قدرة كبيرة لم يرَها أحد حتى اللحظة.
لندع الجبهة الجنوبية جانباً، ولو قليلاً، ولنراقب ما يجري على هامشها، إذ صار من الضروري التوقف عند تعاظم رهان خُصوم حزب الله في لبنان والمنطقة على أن نتائج المُواجهة القائمة أعطت إسرائيل نقاط تقدّم. ويتصرف هؤلاء مقتنعين بأن حزب الله تلقّى ضربة كبيرة، وبالتالي بات من الصعب عليه فرض شروطه لوقف إطلاق النار. وجلّ اهتمام هؤلاء ليس مصير الجبهة مع إسرائيل، بل بأن يخرج حزب الله من هذه الحرب ضعيفاً لاستثمار ذلك داخلياً. وهم في حقيقة الأمر يفعلون، بالضبط، ما يتهمون الحزب به، إذ يكثرون من التحذير من استثمار حزب الله الملف الجنوبي في الداخل، بينما يريدون هزيمته أمام إسرائيل لتحقيق مكاسب داخلية.
لا يبدو الأمر مقلقاً عندما يقتصر على التمنيات والرغبات. لكنّ المُشكلة تطلّ برأسها عندما يبدأ هؤلاء الخصوم بوضع تصورات واعتماد خيارات تقوم على فرضية أن الحزب صار ضعيفاً، وهو ما يقود هؤلاء إلى الاصطدام بجدار سميك جداً، ستنتج عنه كارثة تصيب البلاد، وتودي بهم إلى التهلكة. ولأن الأمر على هذه الدرجة من الخطورة، قد يكون مفيداً لقيادات هذه القوى، ورعاتها في الإقليم أو العالم، فهم بعض الأمور:
أولاً، إن رهان قوى داخلية على خروج حزب الله من الحرب مهزوماً يُعيدنا بالزمن إلى صيف عام 2006، قبل الحرب وخلالها، وحتى بعدها، عندما أوغل خُصوم المقاومة في معركة داخلية مُتدرّجة في التآمر على المقاومة وصلت إلى ذروتها في 5 أيار 2008، ما دفع بالبلاد إلى حافة الهاوية، قبل أن ينتهي الأمر بانقلاب كبير في المشهد الداخلي، فتح الباب أمام تغييرات كبيرة، كان من نتائجه تفكّك جبهة خُصوم حزب الله وتراجع قدرتهم على التأثير في تفاصيل القضايا الداخلية.
ثانياً، إذا كان خصوم المقاومة يعتقدون بأنهم في وضع يسمح لهم بخوض معركة داخلية كبيرة ضد حزب الله، فإن تدقيقاً بسيطاً قد يساعدهم في تلمّس حجم التغيير الذي طرأ على المزاج العام للجماعات اللبنانية خلال 18 سنة، وإن ما لم يكن ممكناً في ظل النفوذ القوي والاستثنائي لحلف 14 آذار، ليس ممكناً التفكير به الآن.
كارثة أن يتوهّم خصوم المقاومة أنها ضعيفة فيبادروا إلى مغامرات تقود البلاد إلى ما يطيح بما بقي من النظام والدولة
ثالثاً، يعلم خصوم المقاومة أن هدف أي معركة داخلية جديدة يجب أن يكون منسجماً مع طلبات الإقليم والعالم. ورغم استمرار المواقف السلبية نفسها، للرعاة الإقليميين لقوى 14 آذار، فإن الحسابات اليوم ترتبط بساحات أكبر من لبنان، إذ يدرك العالم المتوحّش بقيادة الولايات المتحدة أن أوراق محور المقاومة كثيرة جداً، وقادرة على خلق أحداث لم تكن واردة عام 2006 أو حتى عام 2008.
رابعاً، إن مُغامرة قذرة يلجأ إليها بعض خصوم حزب الله المحليين، ستحظى برعاية الخارج في حالة وحيدة فقط، وهي القيام بعمل يهدف إلى جرّ حزب الله نحو مُواجهة داخلية تجعله في موقع لا يُناسب مصلحة المقاومة. لكنّ أي مُواجهة من هذا النوع، ستفرض تغييرات كبيرة، وقد تكون جذرية، على بنية النظام في لبنان. وبالتالي، فإن الخطر يحدق أولاً بما تبقّى من مُؤسسات عامة، وعندها سيكون مصير البلاد أمام أسئلة كبيرة، حتى ولو كان بين أركان بقايا «الجبهة اللبنانية» من يحلم بالعودة إلى السنوات التي سبقت الحرب الأهلية عام 1975.
خامساً، إن تجاهل حجم الانقسامات الداخلية الفعلية، وعدم الإقرار بأن ملف المقاومة ليس في رأس الأولويات، من شأنهما تضييع الوقت والفرص من أمام اللبنانيين لمعالجة بعض مشكلاتهم. فملف الرئاسة، مثلاً، كان ولا يزال أسير الانقسام المسيحي – المسيحي أولاً، والتجاذب الإسلامي – المسيحي ثانياً. وهو انقسام سابق ولاحق على أي حرب مع إسرائيل، وتسويته تتطلب حلاً يتجاوز رغبات اللبنانيين وحدَهم، لأن أي خطوة لا تترافق مع وضع إقليمي جديد، لن تثمر سوى الخيبة والإحباط. ولنا درس كبير في تجربة رئاسة العماد ميشال عون.
سادساً، إن السعي إلى خلق تغيير كبير في الواقع السياسي الداخلي، يحتاج إلى أدوات بشرية وسياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، وهو أمر يتطلّب حسابات من نوع مُختلف في المنطقة والعالم. وإذا كان في لبنان من يُراهن على دور أميركي – إسرائيلي في تعديل موازين القوى، فهو فريق لم يقرأ جيداً التاريخ القريب، كما أنه يعكس حالة الإنكار إزاء قدرة المقاومة ودورها في المنطقة وليس في لبنان فقط. وبالتالي، فإن الرهان على ضربة إسرائيلية كبيرة تجعل حزب الله ضعيفاً ومنهزماً هو رهان قائم على فرضيات، أساسها أن هؤلاء يرون ما حصل في غزة، ويعتقدون بأنها مشاهد قابلة للتكرار في لبنان، ومُشكلة هؤلاء أنهم يصرّون على الاعتقاد بأن حزب الله غير قادر على مُواجهة إسرائيل.
وفي السياق نفسه، لا بد من لفت الانتباه إلى أمر، قد يحفّز خصوم المقاومة على قراءة الأمر بطريقة أكثر واقعية، خصوصاً لناحية إدارة حزب الله لجبهة الإسناد الآن. ذلك أنه عندما اغتال العدو القائد الجهادي فؤاد شكر، درس حزب الله كيفية الرد، ولم تنقصه التصورات العملانية، ولا أدوات الرد على اختلاف أنواعها، لكن أساس البحث عنده ظل مُستنداً إلى طبيعة المعركة القائمة، وأن طبيعة الإسناد تفرض أثماناً بحد ذاتها، من بينها سقوط الشهداء من المقاتلين والقادة. وإذا كان العدو قد رفع من سقف المعركة، فإن رد المقاومة لم يكن هدفه الانتقال نحو الحرب الشاملة. ولهذا السبب، حصل تحديد أهداف الرد، ونوع السلاح الواجب استخدامه، علماً أن التعديل الوحيد على صعيد الأسلحة تمثّل في إدخال أنواع جديدة من المُسيّرات. وهي أنواع لم تشر المقاومة إلى طبيعتها، لكنّ العدو نفسه، لم يأتِ على ذكرها مُطلقاً، ولم يُعطِ أي إشارة إليها، ولم يعرض صُوراً للمُسيّرات التي قال إنه أسقطها قبل وصولها إلى أهدافها قرب تل أبيب.
المقصود هنا أن من يُراهن على هزيمة المقاومة عسكرياً وأمنياً، وبالتالي سياسياً، عليه انتظار الرصاصة الأخيرة في معركة قد تطول لأشهر إضافية. وبقدر ما تتعزّز القناعة لدى العدو بالحاجة إلى حرب كبيرة مع حزب الله الآن أو لاحقاً، فإن المقاومة نفسها تستعدّ لما هو أسوأ، الآن، أو حتى بعد شهور أو سنوات، وحتى ذلك الحين، من الأفضل أن يعود اللاعبون إلى أحجامهم الطبيعية، وأن يُفكروا جيداً قبل أي مُغامرة حتى ولو كان بينهم، من يُريد تقمّص دور البطل، ولو على صورة قدّيس أو شهيد!.