إسرائيل منتشية بالاغتيالات والتدمير، وماضية في ارتكاب الأفظع والاستباحة الأوسع والتجزير الأكبر بالمدنيين. ومن تحت جمر محرقة القتل والترويع والتهجير هذه، ينبعث السؤال: إلى أين؟
في هذا الدخان الكثيف المنبعث من صواريخ الدمار الشامل التي تلقيها إسرائيل على رؤوس المدنيين، يتعذّر العثور على إجابات يقينية حول الوجهة التي يتجه إليها الوضع، وخصوصاً أنّ الحرب في بدايتها، وليس معلوماً شكلها حتّى الآن، ولا ماهية المرحلة الجديدة التي فتحها العدوان البرّي، حيث لا تتوفّر تسمية لها، كما لا تتوفّر لدى كلّ القارئين في فناجين السياسة والعسكر ما يمكّنهم من سبر أغوار هذه المرحلة وتقدير ما تخفيه بواطنها من احتمالات وسيناريوهات مجهولة.
حالة النشوة التي تعيشها إسرائيل، دفعتها إلى اتّخاذ قرارات وخيارات حربيّة لتكمّل الإجهاز «على ما تبقّى من «حزب الله»، هذا ما يقوله بعض قادتها وجنرالاتها. وضمن هذه الحالة الانتشائية أطلقت عملية بريّة قالت إنّها محدودة، ومداها الزمني ليس طويلاً، وتتحدّث عن انتصار سريع تحقق من خلاله هدفها المعلن؛ إبعاد «قوة الرضوان» إلى ما بعد الليطاني، وإعادة مهجري مستوطنات الشمال اليها.
و«حزب الله» يقول إنّه اعلن جهوزيّته للالتحام البرّي، والخطة معدّة منذ ما قبل استشهاد الامين العام السيد حسن نصرالله، رافعاً راية الصّبر والنَفَس الطويل، ويتوعد اسرائيل بأكبر الخسائر وسيجعلها تستفيق من سكرة النشوة، ويثبت لها أنّ نشوتها في تقدير انكساره وإضعاف قدراته، ما هي الّا مجرّد شعور غبي، والعبرة في نهاية الحرب.
وقائع الميدان لا تحاكي عمليّة بريّة حقيقية حتى الآن، ما يحصل منذ الإعلان عن إطلاقها فجرالاثنين – الثلاثاء، سجال ناري ما زال في مرحلة التراشق؛ «حزب الله» كثف عملياته من الحدود وصولاً الى العمق الاسرائيلي، فيما يقول الجيش الاسرائيلي اعلامياً إنّه تقدّم الى الاراضي اللبنانية ودمّر بعض أنفاق «حزب الله»، ما نفاه الحزب، و«اليونيفيل»، لم تؤكّد رصد شيء كهذا. وأمّا على أرض الواقع، فيبدو جيش الإحتلال وكأنّه يحاول أن يختبر قدرات «حزب الله»، وأن يتحسّس الأرض بحثاً عن ثغرة ينفذ منها إلى الجانب اللبناني من الحدود.
لا يعني ذلك أنّ الأمور لن تتطوّر أو أنّ الإحتكاك المباشر بين الجيش الإسرائيلي والحزب قد يتأخّر. ولكن السؤال يتجاوز الحرب ومواجهاتها التي تؤشر كل الوقائع إلى انّها ستكون طاحنة، الى محاولة تقدير حدودها ومدى اتساع رقعتها الجغرافية، وبالتالي نتائجها وكيفية وقفها وبأيّ وسيلة؟
إسرائيل تغطي عمليتها البرية بضباب كثيف حول مداها والهدف الحقيقفي منها، ويبدو انّها وزّعت أدواراً لمستوياتها السياسيّة والعسكريّة والإعلاميّة للتعمية عليها، والترويج المتدرج لعدة مديات وسيناريوهات تمويهيّة؛
اولاً، عن عمليّة محدودة وغارات محددة لبضعة أيام.
ثانياً، عن عملية ضيّقة النطاق مداها 4 أسابيع يُراد منها إقامة منطقة أمنية في محاذاة الخط الحدودي توفّر الأمان لسكان الشمال.
ثالثاً، عن عملية ستتمدّد إلى حدود الليطاني وإبعاد «الرضوان» الى ما بعده.
رابعاً، عن عملية واسعة قال المستوى السياسي في اسرائيل إنّ هدفها هو القضاء على «حزب الله» ونزع سلاحه وتغيير النّظام في لبنان كمقدمة لتغيير الشرق الأوسط.
في كلّ هذه السيناريوهات تريد إسرائيل نصراً سريعاً، فهل ستتمكّن من ذلك؟
في التقديرات أنّ الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد، والميدان باعتراف إسرائيل معقّد وليس سهلاً، وربما تصبح اكثر صعوبة وتعقيداً في ظل المؤشرات التي تتراكم من اتجاهات مختلفة، وتشي إلى حدّ الجزم، بتوسّعها الى ساحات وجبهات أخرى. وتُوجّه الأنظار إلى الجبهة الإيرانيّة التي تحرّكت بقوّة شديدة في الساعات الماضية بتوجيه دفعة كبيرة من الصواريخ الإيرانية في اتجاه اسرائيل.
وفي التقديرات ايضاً، فإنّ اسرائيل برغم سلسلة الإنجازات الإستخباريّة والإغتيالات وغارات الدمار الشامل والقصف المدفعي والصاروخي الواسع النطاق، والحرب النفسية الشرسة التي تشنّها، أقصى ما حققته هو انتشاء المستويين السياسي والعسكري بها. الّا انّها على الأرض لم تنهِ «حزب الله»، ووضعه وبنيته وهيكليته وقدراته ما بعد الإستهدافات والاغتيالات، عرضها الشيخ نعيم قاسم بالتفصيل. كما أنّها في الوقت نفسه، وهنا الأهمّ، لم تمكّن إسرائيل من إعادة مستوطن واحد إلى الشمال، بل انّ عدوى التهجير انتقلت الى مستوطنات أخرى في الداخل الاسرائيلي.
من هنا يُمكن تفسير رفض نتنياهو المبادرة الدوليّة لوقف إطلاق النار، التي رعتها فرنسا والولايات المتحدة الأميركية ووقّعت عليها مجموعة من الدول الكبرى، فهذه المبادرة جاءت في الوقت الذي ليس في يد نتنياهو شيء يقدّمه لسكان الشمال الذين وعدهم بالعودة. فقرّر الدخول بعملية بريّة إلى لبنان، لهدف تحقيق انتصار ساحق على «حزب الله» وفرض واقع جديد، إنْ امكن له ذلك، واما اذا ما تعذّر، فيحاول تحقيق إنجاز ميداني ما يستثمره في مفاوضات الحلّ الديبلوماسي التي ستحصل حتماً في لحظة ما.
وعلى ما هو واضح، فإنّ العملية البرية تتمّ برضا واشنطن. ولكن ثمّة مفارقة لافتة في هذا السياق، هي أنّ الولايات المتحدة التي حذّرت اسرائيل من نتائجها الكارثيّة عليها وفق ما جاء في بيان للبنتاغون، هي نفسها عادت ومنحت التغطية العلنية للعملية البريّة، عبر وزارة الخارجية الأميركيّة التي قالت صراحة: «نحن ندعم وقف اطلاق النار، ولكن الضغط العسكري امرٌ ضروري، ويمكن أن يساعد في الحلّ الديبلوماسي». وثمّة من يتندّر في هذا السياق قائلاً: «الأميركي يهدّئ من روعك، ويعطي فرصة للإسرائيلي لأنّ يُكمل ضرب بنك اهدافه»!
ما تقدّم يعني أنّ الميدان الحربي يغلي من لبنان إلى إسرائيل وصولاً إلى إيران، ويفتح على ان تسلك الامور وجهتين: الاولى ربما تفاؤلية، اي أن ينحى هذا الغليان بالأمور نحو استنفار دولي واسع يدفع سريعاً في اتجاه إعادة إطلاق المسار السياسي توصلاً لاتفاق على وقف اطلاق النار، لتجنّب كارثة يحذّر منها العالم. واما الوجهة الثانية، فقد تكون الأكثر ترجيحاً، بأنّ هذا الغليان الحربي قد يضع المنطقة أمام تحوّلات خطيرة جداً، وخصوصاً انّ نذر الحرب الشاملة وربما الحرب الاقليمية بدأت تلوح في الأفق.