تسود لدى قيادات الكيان الإسرائيلي نشوة سياسية نتيجة تحقيق مكاسب عسكرية وسياسية موضعية وآنيّة مهمة، بعد اغتيال القائد الشهيد السيد حسن نصر لله وقياديين كبار في حزب لله والمقاومة، وتدمير مناطق سكنية بأكملها في بيروت وضاحيتها الجنوبية وفي الجنوب والبقاع والجبل. وهي مكاسب تُحتسب له بالنقاط في صراع طويل وصعب ومرير على الكيان الإسرائيلي ومجتمعه العسكري، الذي ما اعتاد هذا النوع من الحروب والخسائر البشرية والأضرار المادية والكلفة الاقتصادية العالية.
كما ان خصوم كيان الاحتلال في محور المقاومة سجلوا أيضاً نقاطاً مهمة آنيّة موضعية لكن لها تأثيرها النفسي والمعنوي وحتى العسكري على ما يُسمّى الجبهة الداخلية، بعد قصف تل أبيب وحيفا ويافا وعكا وصفد وطبريا ومناطق حيوية أخرى، عدا تدمير المستعمرات الحدودية مع لبنان وتهجير عشرات آلاف المستوطنين.
هذا الربح بالنقاط، تقابله خسائر كبيرة بالاستراتيجيا على الكيان الإسرائيلي، فقد سقطت أولاً مقولاته بالتفوّق العسكري واستعادة المبادرة، وسقطت أهدافه بتدمير المقاومة في غزة ومن ثم في لبنان، وسقطت صورته أمام الرأي العام العالمي على انه كيان ديموقراطي مؤيد لحقوق الإنسان، وأصبحت الصورة المرسومة عنه في الغرب صورة وحش يقتات على البشر، والأهم ان حلفائه في الغرب بدّلوا مفاهيمهم وأفكارهم النمطية المغلوطة عن القضية الفلسطينية، واعترفوا بأن للشعب الفلسطيني الحق في الحياة الكريمة وبناء دولته المستقلة، وأنه للشعوب العربية الأخرى في الدول المجاورة لفلسطين كلبنان الحق في الاستقرار والرفاه والبناء، اسوة بما منحوه من «حقوق» لهذا الكيان في العيش بأمان على حساب دماء الآخرين بما قدّموه من دعم مالي وعسكري وسياسي غير مسبوق لأي دولة في العالم.
باتت الدول الأكثر دعماً وتعاوناً مع الكيان الإسرائيلي مقتنعة بأن لا حياة مستقرة لهذا الكيان المتوحش من دون أن يغيّر في ممارساته وارتكاباته ومواقف وتوجهات قياداته المتطرفة، لدرجة ان الرئيس الأميركي جو بايدن وصف رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو بأنه «كاذب ولا يهمّه سوى صموده السياسي»، حسبما ذكر الصحافي بوب وودوارد في كتابه «حرب»، الذي سيصدر في 15 تشرين الأول، ويتحدث فيه وودوارد خصوصاً عن «جهود ذهبت سدى بذلها الرئيس بايدن من أجل وضع حد للحرب التي تشنّها إسرائيل على حماس في قطاع غزة».
أهم ما في خسارة نتنياهو الاستراتيجية، ان أهم مناطق الكيان الإسرائيلي في الوسط بات تحت نيران صواريخ محور المقاومة ومن أربع جهات: لبنان وغزة واليمن والعراق، عدا القصف الإيراني الواسع الأسبوع الماضي، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، يفرض على الكيان إعادة النظر بكل مفاهيمه الاستراتيجية القائمة الى الردع في الحروب، وتغيير عقيدته التلمودية – التوراتية المخادعة، والاعتراف بأنه لن يستطيع أن يحكم المنطقة العربية أو يسيطر عليها وفق مشروع «إسرائيل الكبرى من الفرات الى النيل»، وانه لا بد في نهاية المطاف ومن أجل بقاء هذا الكيان واستقراره كأمر واقع تفرضه المعادلات الدولية الكبرى على العرب أجمعين، أن يعترف بحقوق الآخرين وإلّا لن يشهد استقراراً.
وفي الخسائر الاستراتيجية كذلك، تفهّم دول الغرب أكثر من أي مرة سابقة لأهمية مشروع حل إقامة الدولتين في فلسطين المحتلة، وهو أمر رفضه نتنياهو وفريقه المتطرف بالكامل، وعبّروا عن ذلك بصراحة ومن دون مواربة «بأن إسرائيل لن تقبل بدولة إرهابية قرب حدودها» وهذا الأمر ينطبق على لبنان أيضاً، لذلك باشر كيان الاحتلال حربه التدميرية بلا ضوابط على لبنان. لكن في اعتقاد مصادر حكومية ان الحرب لا بد أن تنتهي ولن يخرج منها نتنياهو منتصراً ومحققاً لأهدافه الاستراتيجية، إذ كما قال مسؤولون أميركيون وحتى إسرائيليون «ان حركة حماس ليست مجرد تنظيم بل هي فكرة لا يمكن محوها، والحال كذلك بالنسبة لحزب لله».
وتؤكد المصادر الحكومية لـ «اللواء»: ان رفض إسرائيل لوقف اطلاق النار مع لبنان سيعود بالخسائر الكبرى عليها كما يقول الأميركيون، وان موقف لبنان الرسمي ما زال متمسّكاً بالمبادرة الفرنسية – الأميركية لوقف اطلاق النار تمهيداً لتطبيق القرار 1701 من جانبي الحدود، برغم تفلّت الأميركي والإسرائيلي منها، وعلى الجانب الأميركي أن يقرر كيف سيُلزم إسرائيل بتطبيقه بدل منحه السلاح والدعم المفتوح. ومن دون وقف اطلاق النار لا يمكن حل الأمور.
ولعل الجانب الأميركي استشعر ولو متأخّراً سنة، حجم الخطر الإسرائيلي على لبنان وأيضاً على الكيان الإسرائيلي نفسه وما يُرتّبه من تغيير معادلات ونتائج ردع يفرضها الميدان. ولهذا من المرتقب أن يعود الأميركي الى محاولة إنقاذ إسرائيل ونتنياهو من نفسه عبر طرح مشاريع حلول مقبولة من المقاومة، لا سيما بعدما أثبتت المقاومة على امتداد الوطن العربي انها قادرة على استعادة الردع والتوازن وكسر قواعد ارتكاز قوة العدو.