بصرف النظر عن طبيعة ردّ «حزب الله» على اغتيال القيادي في حركة «حماس» صالح العاروري، والذي وقع في عمق الضاحية الجنوبية في أول خرق أمني كبير منذ عام 2006، فإنّه سيكون رداً محسوباً ودقيقاً، بما يتوافق ومصلحة «الحزب» وبيئته الحاضنة، فضلاً عن التحكم بمفاصل إدارة المعركة بعيداً عن الإنفعالية أو الإنجرار إلى حرب يبدو أنّ اليمين الإسرائيلي الحاكم يسعى إليها لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية عنه.
هي المرة الأولى التي تواجه فيها إسرائيل تصدياً لحربها من عدد من الدول الغربية التي بدأت تتأثر بحركة الرأي العام الغربي الذي أظهر استياءً كبيراً من مواقف حكوماته إزاء الدعم اللامحدود لإسرائيل، وضغطاً من الإعلام الإسرائيلي الذي يشكّك في أهمية المعارك التي يخوضها جيش دفاعه ويتهم رئيس حكومته بالتهور لتحقيق مصالحه الشخصية على حساب مصلحة المستوطنين وأمنهم.
وعلى خلاف حسابات المسارعين إلى المطالبة بردّ فوري لـ»حزب الله» على اغتيال العاروري، وغيره من القادة في محور المقاومة، فإنّ التردّد الجوهري لـ»حزب الله» بعدم توسيع حدود المعركة مع إسرائيل، ورفع مستوى حدّتها أو الدخول في حرب شاملة يستخدم فيها كل قدراته العسكرية ينبع من عدة أسباب: عدم حجب التركيز الدولي عن مأساة غزة بفعل الاعتداءات الاسرائيلية التي تجاوزت كل المعايير الإنسانية والقانونية والأخلاقية، والتي أوجدت تعاطفاً غربياً قلّ نظيره ولم يشهد له مثيل منذ قيام إسرائيل، وعدم إعطاء ذريعة تنقذ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من ورطة غزة بالهروب إلى معركة الحدود الشمالية، خاصة في ظل المعارضة الداخلية والأصوات التي بدأت تدينه، وآخرها لرئيس الأركان الإسرائيلي السابق داني حالوتس الذي أطلق على حرب غزة عنوان «حرب سلامة نتنياهو».
كما أنّ الهروب إلى حرب الشمال إن حصل قد يعيد ترتيب الجبهة الداخلية ويرمّم الأضرار الكبيرة التي لحقت بسمعة إسرائيل، والأصوات التي تطالبها بوقف حربها على الفلسطينيين في غزة، وكان آخرها التصويت الذي شهدته الجمعية العمومية للأمم المتحدة العام الفائت، حيث صوتت 153 دولة على وقف الحرب ما عكس صورة واضحة عن عدم الرضى على أعمال حكومة نتنياهو.
بدا خطاب الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله أمس الأول واضحاً إلى أبعد حدٍ بأنّ الردّ آتٍ، وأنّ أي حرب ستجرّ إلى حرب بلا حدود وضوابط، متقصداً الوضوح الغامض الذي يجيده في مخاطبة المجتمع الإسرائيلي الداخلي، والذي ستبرز مؤشراته في إطلالته اللاحقة التي يتوقع أن تتناول تفاصيل خاصة بأرض المعركة شبيهة بما دأب عليه منذ حرب تموز 2006.
عاملان جديدان أدخلهما السيد نصر الله في خطابه الأخير، أولهما تقصّده تسليط الضوء بالمعنى السوسيو- پوليتيك، أنّ الفلسطينيين في فلسطين هم بالإنتماء أولاد أرض، يموتون حيث ينتمون، أمّا اليهود على أرض فلسطين فقد جمعوا حول سردية ميتولوجيّة عنوانها أرض الميعاد، وبالتالي هم ينتمون الى شعار الأرض، وليس للأرض، وهذا هو الفارق الذي سيجعل اسرائيل تخسر معركتها ومبرّر جودها.
أما العامل الثاني والمهم فتركيزه على تلك البقعة الجغرافية المسماة «غوش دان» التي تضمّ ثلاثة أرباع إسرائيل ومصافي نفط ومصانع كبرى ومؤسسات حكومية بشهادة جنرال إسرائيلي كان حذّر نتنياهو من أن تؤدي أي حرب مع «حزب الله» إلى تدميرها. وإعادة التذكير بها في سياق التهديد بحرب شاملة وشرسة يضعها في صلب الأهداف المقبلة متى أرادت اسرائيل توسيع عدوانها على لبنان.
منذ لحظة وقوع عملية الاغتيال في الضاحية سارعت الجهات المسؤولة إلى نقل رسائل غربية متفرقة إلى «حزب الله» بأنه ليس المقصود بالاستهداف ولا حتى الخروج عن قواعد الإشتباك المتفق عليها، وانما تصفية الحساب مع منفذي عملية السابع من اكتوبر، وعليه كان ردّ نصر الله أنّ «هذا الكلام على من يمرق؟ على الأطفال، على الجبناء؟» قاصداً الردّ على الداخل والخارج.
من حديث أمينه العام المتشعب الرسائل، يبدو أنّ خيار الحرب لدى «حزب الله» تقدّم في الحسابات، ويحدّده الميدان، لكنّه لن يكون المبادر لشنّها فيقدّم هدية إلى رئيس وزراء اسرائيل الذي يقود حرباً فاشلة مقارنة بالأهداف التي حدّدها للحرب، وليس من حيث الدمار الذي لحق بغزة وأعداد الشهداء الذين سقطوا. في حساباته أنّ الكلمة للميدان، وإن حاول نتنياهو الشروع في الحرب، فهو قد يحدّد بدايتها، لكن نهايتها لن تتوقف على قرار منه. فالحرب المقبلة إن وقعت ستكون حرباً بلا ضوابط ولا سقوف، وستكون حرباً قاضية، ذلك أنّ «حزب الله» يعتبر أنّ نهاية إسرائيل لم تعد بعيدة، ورداً على المشكّكين بردّه على اغتيال العاروري وآخرين، فهو يعتبر أنّ الردّ واقع من خلال جبهة الجنوب الحامية والأهداف التي تحقّقها ضربات المقاومة، وسيتحدث عنها السيد اليوم بالتفصيل، لكن هذا لا يلغي أنّ رداً قاسياً وموجعاً سيكون في موعد يختاره الأمين العام بما يتناسب ووقع عملية الاغتيال ومكان وقوعها. فالكلمة اليوم للميدان وما سيشهده في غضون الآتي من الأيام، والخيارات ستكون صعبة ومرهقة و»حزب الله» في أعلى جهوزيته لخوض الحرب وينتظرها لعلمه أنّ خوضها يكون أفضل حالاً من الواقع الراهن.