تتّضِح الصورة أكثر فأكثر في غزة: بنيامين نتنياهو لن يوقف الحرب، لكنه سيُبطئها كثيراً ليطيل أمدها عاماً أو أكثر، بحيث تتقلّص خسائر إسرائيل العسكرية والمدنية والاقتصادية، وتصبح مقبولة لدى الرأي العام هناك. وبعد ذلك، يكون لكل حادث حديث في غزة كما في الضفة ولبنان.
بات محسوماً أنّ هدنة شهر، على الأقل، أصبحت قيد الإعلان نتيجة المفاوضات الدائرة في باريس. فهناك تقاطع للمصالح بين الأطراف جميعاً حول هذه الهدنة: الأميركيون والأوروبيون والعرب يريدونها مدخلاً إلى تسوية سياسية، نتنياهو يريدها للتمييع وخلق مساحات مستقطعة من الهدوء في خضمّ الحرب و»حماس» تريدها لالتقاط الأنفاس.
وسيحصل كل من الطرفين المتقاتلين على ما يريده من هذه الهدنة: كسب الوقت والاستعداد لجولات أخرى. لكنّ العاملين للتسوية السياسية لن يصلوا إليها، على رغم الضغوط التي سيمارسونها، لأنّ باب التسويات مقفل في المدى المنظور. فلا إسرائيل مضطرة إلى التنازل في الوقت الحاضر، ولا الإيرانيون، ومن خلالهم «حماس» و»حزب الله»، على رغم من خطوط الاتصال التي يفتحونها مع واشنطن في عُمان.
والضربة الأخيرة التي تلقاها الأميركيون، بعد ضربات أربيل وحلب والبحر الأحمر واستهدفت القاعدة العسكرية الأميركية في شمال شرق الأردن، تؤكد أن الإيرانيين ما زالوا مقتنعين بامتلاكهم هامشاً واسعاً من المناورة قبل الجلوس إلى طاولة مفاوضات حقيقية.
ستستفيد إيران من هدنة غزة لتدعيم مواقع حلفائها. فـ»حماس» لن تفرج إلا عن عدد محدد من المحتجزين الإسرائيليين لديها، يتردد أنه لن يتجاوز الثلاثين، لكي يبقى في يدها ما يفوق السبعين محتجزاً من الأحياء، وعدداً آخر من الذين قتلوا خلال فترة احتجازهم. وستستخدم هؤلاء جميعاً، أي نحو 100 محتجز، كورقة مساومة في أي مفاوضات مقبلة. وخلال الهدنة، ستحمي الحركة نفسها بالمحتجزين الأحياء الذين يقال إنهم موجودون إلى جانب المقاتلين في داخل الأنفاق.
خلال الاستراحة، وأيّاً كانت القيود التي ستفرضها الهدنة، سيتمكن مقاتلو «حماس» من تنظيم صفوفهم واستعادة قدراتهم في داخل الأنفاق، خصوصاً إذا كانت مفتوحة على سيناء، كما يقال. وسيحصل المدنيون على شحنات وافية من المؤن الغذائية والطبية. وهذا ما يسمح لـ»حماس» باستعداد أفضل للجولة المقبلة من القتال.
وعلى رغم من أن الإسرائيليين يعرفون، فإن نتنياهو من جهته يحتاج إلى تلك الهدنة تكتيكياً. فمن قواعد الحروب، خصوصاً في المناطق المكتظة بالسكان، أن يتم استقطاعها بفسحات هدنة، فيما تستمر الحرب حتى تنضج التسويات.
وهنا، لا بد من التفكير في عامل سيخرج إلى الضوء بقوة في المرحلة المقبلة، وهو دور مصر في غزة، وربما دور الأردن في الضفة الغربية. فالبلدان معنيّان بالملف ومنخرطان تماماً في المفاوضات الجارية حالياً.
ولكن، إذا كان معروفاً ما ينتظر غزة خلال الهدنة، فالمفاجأة قد تحصل تحديداً على جبهة لبنان، حيث يتجه الوضع أكثر فأكثر نحو مغامرة عسكرية.
من جهة «حزب الله» الصورة واضحة. هو لا يريد هذه المغامرة في أي شكل، وقد أبلغَ الى الوسطاء بذلك. وهو لن يتجاوز حدود «مُشاغلة» الجيش الإسرائيلي عن جبهة غزة، وفق ما بات يعرف الجميع. وفي المبدأ، الإسرائيليون أيضاً لا يجدون مصلحة في فتح جبهة ثانية، أشد قساوة، ويفضّلون حل المشكلات مع «الحزب» بالتفاوض. لكن المفاوضات فشلت. وتبلّغ الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، في الجولة الأخيرة من محادثاته في بيروت، أن لا تسوية ممكنة بين إسرائيل ولبنان إلا بعد وقف الحرب في غزة.
ووفق المعلومات، عرضَ هوكشتاين والفرنسيون «إغراءات» على «الحزب» مقابل موافقته على الانسحاب من المنطقة الحدودية، هي عبارة عن مكاسب في السلطة، ومنها القبول بمرشح لرئاسة الجمهورية يرتاح إليه. لكن «الحزب» اعتبر خروجه من الجنوب تنازلاً كبيراً جداً، وتخلّياً عن ورقة القوة الأساسية التي يتمتع بها، ولا يمكن تعويضه بهذه المكاسب السياسية الداخلية.
المثير للقلق في هذا المجال هو ما يمكن أن يلجأ إليه الإسرائيليون. فنتنياهو يَتجاذبه اليوم تياران داخل حكومته: الأول يدفع بقوة نحو تنفيذ ضربة عسكرية قاسية ضد مواقع «حزب الله» ومخازن صواريخه الدقيقة، تكفل إزالة أي خطر قد يتسبّب به في أي وقت، على غرار ما فعلت «حماس» في 7 تشرين الأول الفائت، فيما الثاني يُفضّل ضمان هذه المسألة باتفاق سياسي مع «الحزب»، يحظى بضمانات دولية.
الجامع بين التيارين هو أنهما يُقرّان بضرورة إزالة «الخطر» الذي يمثله «حزب الله» وصواريخه الدقيقة ومسيراته، وفي أقرب ما يمكن. وهذا الإجماع يريد نتنياهو استثماره، ويتم التداول في عدد من الأوساط بأنه سيتفرّغ لضرب لبنان بعد الانتهاء من غزة. ولكن، وبسبب عدم وجود سقف زمني للحرب هناك، فإنه قد يستفيد من أي هدنة هناك ليضرب في لبنان.
تعتبر واشنطن أنّ هذه المغامرة هي خط أحمر، على رغم من أنها تشارك إسرائيل خوفها من خطر الصواريخ الدقيقة والمسيّرات التي يحرّكها حلفاء طهران على الشاطئ الشرقي للمتوسط. وهي تفضّل معالجة هذه المسألة ضمن تفاهم يمكن التوصّل إليه مع طهران، على غرار الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية.
وإزاء الموقف الأميركي الرافض للضربة في لبنان، يقف نتنياهو أمام 3 خيارات:
1 – أن يرضخ للضغط الأميركي ويتراجع عن الضربة حتى إشعار آخر.
2 – أن يُرجئ الضربة إلى حين انتهاء الحرب في غزة، وتغيير إدارة جو بايدن، وإقناع الإدارة المقبلة، أي دونالد ترامب، بالحصول على تغطية لتنفيذها.
3 – أن يفاجئ الجميع ويفرض عليهم الضربة كأمر واقع، في لحظة معينة، وخصوصاً في ظل الهدنة الحالية المعقودة في غزة، أو أي هدنة مقبلة. وهذا الأمر وارد ويجب إدراجه في كل الحسابات.