الحلول الاقتصادية للأزمة رهن بالتسوية الشاملة في المنطقة
عاد البحث بـ «الصندوق السيادي» من بوابة القصر الجمهوري. فمن بعد إفراد الخطة الحكومية مساحة لصندوق حكومي، وتأكيد المصارف على ضرورة انشاء «صندوق تخفيض الدين»، بدأت تتجوجل الافكار لانشاء «صندوق سيادي». فهل يكون حلاً أم عقبة جديدة توضع في طريق الاصلاح الجدي؟
نفي أكثر من طرف تشكيل لجنة دراسة مشروع الصندوق السيادي بمبادرة رئاسية، لا يعني ان الفكرة لم تطرح. “نداء الوطن” تواصلت مع أكثر من شخصية أدرجت اسماؤها في اللجنة للوقوف على حقيقة ما يحدث. البعض لم يعلق نفياً ولا تأكيداً، فيما البعض الآخر تحدث عن تواصل شخصي لبلورة أفكار من دون علمه بانشاء لجنة.
الفكرة موجودة
الفكرة بتأسيس صندوق سيادي موجودة، انما الاتفاق السياسي عليها لم ينضج بعد، و”لن ينضج” برأي رئيس مجلس إدارة FFA Private Bank جان رياشي، الذي وُضع اسمه من بين الاشخاص المكلفين دراسة المشروع الذي يلقى اهتمام رئيس الجمهورية.
فالمشروع ما زال موضوعاً في “إطار التفكير. ولا شيء رسمياً حوله بعد”، يقول رياشي. “وذلك على الرغم من أن الفكرة عظيمة. وهي متبعة في الكثير من دول العالم. وقد ركزت عليها مختلف خطط الانقاذ، وتحديداً منها الحكومية والمصرفية، التي جرى وضعها لخروج لبنان من أزمته”.
صندوقا الدولة والمصارف
الاتفاق على أهمية فكرة انشاء صندوق سيادي بين طرفي النزاع، أي الدولة والمصارف، قوبل في ما مضى باختلاف جذري في شكل الصندوق ومهمته. فالصندوق الحكومي يشبه إلى حد كبير Bad Bank أكثر مما هو صندوق سيادي. توضع فيه أموال المودعين المشطوبة أو المخصومة من المصارف بعد تبرئة ذمة الاخيرة، ليصار في ما بعد الى تسديدها من خلال استرجاع الاموال المنهوبة. فيما يتشكل “صندوق تخفيض الدين” الذي اقترحته المصارف من قطاعات عامة كالاتصالات والعقارات العامة والواجهة البحرية. وتكون مهمته اصدار دين عام موازٍ لحجمه بقيمة 40 مليار دولار. وبهذه الطريقة تكون الدولة خفضت الدين العام بقيمة 40 مليار دولار المنقولة إلى الصندوق، ويحصل مصرف لبنان المُصدر لسندات الدين على الفوائد الناتجة من عمل المؤسسات والقطاعات الموضوعة فيه.
المشكلة ان الشكلين السابقين يخالفان مبدأ الصندوق السيادي. فالأخير يجب ان يتكوّن من أصول الدولة، سواء كانت شركات عامة أو عقارات. “صحيح ان ملكيته يجب ان تعود حكماً للدولة، إلا ان ادارته يجب أن تكون على طريقة شركات Holding. تدير الاصول مجتمعة وليس كل شركة أو قطاع على حدة. وتكون مهمة الصندوق تعيين مجالس ادارة الشركات وتعيين الاشخاص المسؤولين عن ادارة الأملاك العقارية”، يقول رياشي.
متطلبات الصندوق السيادي
إطلاق مثل هذا الصندوق يتطلب بداية إحصاء أصول الدولة سواء كانت شركات أم عقارات. خصوصاً ان هناك الكثير من الاراضي والعقارات مسطو عليها، أو مستثمرة من دون علم الدولة أو حتى مضمنة مقابل بدل لا يتوافق مع قيمتها الحقيقية راهناً، كنادي الغولف على سبيل الذكر لا الحصر. فهذه الاصول من شأنها تأمين مورد مالي كبير للدولة إذا أخرجت من نظام المحاصصة والزبائنية والسرقة وأديرت بشكل صحيح. فاذا كان “المال السائب، يعلم الناس الحرام”، على حد وصف المثل الشعبي، فان ترك اصول الدولة وعدم جمعها والاستفادة منها أدى إلى سرقتها وتفويت استفادة الخزينة من مليارات الليرات سنوياً على مدار السنوات السابقة.
“الصندوق السيادي سيصطدم حتماً بمصالح السياسيين الذين يأخذون من المؤسسات العامة واراضي الدولة وأصولها محميات تؤمن لهم التمويل السياسي والتوظيف الانتخابي والاستزلام المنفعي”، يقول رياشي. وعليه فان نزع هذه الامتيازات المكرسة على مدى سنين طويلة ووضعها في صندوق تستفيد منه الدولة والمواطنون هو “بمثابة حلم”، لن يكون سهلاً برأي رياشي وسيواجه عراقيل كثيرة. ذلك انه من أول شروط هذا الصندوق هو استقلاليته عن السياسة والسياسيين.
العقلية التصفوية
البعض يرى ان علة هذا الصندوق لا تنحصر فقط بوجود المحميات السياسية إنما بـ “العقلية التصفوية” التي تتحكم به. بمعنى انه يهدف إلى تصفية الديون والخسارات المجمعة، ولا ينظر إلى الأمام من خلال زيادة الانتاج وتفعيل مداخيل الدولة ليسمح لها دفع مستحقاتها للمصارف والجهات الدائنة. هذا من جهة ومن الجهة الأخرى هناك مخاوف من تحول هذا “الصندوق” إلى شبيه بصناديق ومؤسسات الدولة العامة. وذلك لجهة سيطرة السياسيين عليها واستشراء الفساد فيها. فهناك تجربة تظهر ان المؤسسات العامة وكل ما يُنشأ لمساعدة المواطنين سواء كان صندوق امومة أم طبابة أم تعويض نهاية الخدمة أو خلافه… يطوّع بخدمة المحاصصة، وتغيب عنه المنافسة. هذا فضلاً عن امكانية بيع أصول الدولة التي هي ملك جميع المواطنين للتعويض على المودعين. في حين ان الدائن هو الذي يجب ان يتحمل الخسارة.
المشكلة سياسية
الهواجس من تحول الصندوق إلى أداة بيد السياسيين موجودة، وعندها “يكون قد جرى الاستيلاء على مقدرات البلد مرتين: مرة بشكل مباشر من خلال السرقة والهدر والفساد، ومرة أخرى من خلال السيطرة على أملاك الدولة الموضوعة في الصندوق”، يعتبر رياشي. “وعليه نعود إلى الشرط الاول والذي يتمثل في ضرورة إقصاء السياسة والسياسيين عن هذا الصندوق. كما ان اطّلاع الصندوق بمهمة خصخصة بعض المرافق أو الدخول بشراكة مع القطاع الخاص تعتبر مهام مشروعة، بعد تأمين الارضية اللازمة لعمله والحرص على تأمين أحسن خدمة بافضل سعر”.
يبقى السؤال الاساسي والمحير في آن معاً: ان كنا على ثقة بان الصندوق السيادي لن يبصر النور، وبان المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لن تترجم إلى جرعات دعم فلماذا نعمل عليهما إذاً؟
“كي نربح الوقت”، يجيب رياشي. “فلقد أصبح واضحاً ان الوصول إلى صندوق النقد الدولي أصبح يتطلب حلاً سياسياً في المنطقة، وولادة الصندوق السيادي يوجب تغيير الطبقة السياسية أو العقلية السائدة”. إلا ان هذا لا يعني التقاعس عن تنفيذ المطلوب خصوصاً لجهة الاصلاحات التي ركز عليها صندوق النقد الدولي و”سيدر” وتعيين الهيئات الناظمة، والاتفاق على الأرقام ووقف التهرب الضريبي والتهريب عبر الحدود. فالاصلاح والخطوات الصائبة اليوم تجعلنا جاهزين وتسهل علينا الدخول في المفاوضات عند بلورة الحل السياسي”.