إحتدام نقاش كيفية إستخدام الإيرادات المحتملة من الغاز
بعد سنوات من «العقم» الاقتصادي، حمل لبنان بـ»جنين» نفطي. التحضيرات لاستقبال المولود الجديد بدأت مع تجهيز «الصندوق السيادي». إلا أنه على غرار كل المشاريع التي تتضمن عوائد كبيرة محتملة، تصبح عرضة لـ»بازار» تحقيق المنفعة الشخصية، تحت حجة حماية المصالح الطائفية. وعدا عما تتطلبه هذه العملية من وقت لا نملك ترف امتلاكه، تبرز الخشية من أن يحصل مع «الصندوق» ما حصل لمولود العميان، على حد قول المثل الشعبي…»قتلوه بالبقبشة».
الجدل على الصندوق السياسي ينقسم إلى شقين أساسيين:
الاول يتعلق، بمرجعية الصندوق. أي «مِن حصة مَن» على الطريقة اللبنانية.
الثاني، كيفية التصرف بعوائده. هل تدخر عائداته للأجيال القادمة؟ أو توظف في مشاريع البنى التحتية؟ أو توضع في صندوق إسترداد الودائع؟ أو تستخدم لتمويل لتأمين الخدمات الأساسية؟
الشفافية أولاً
على الرغم من أن إنشاء صناديق الثروة السيادية لا يتطلب إختراع «البارود» نظراً للتجارب الدولية المتنوعة، ووجود مبادئ عامة، فان البحث في لبنان مستمر منذ العام 2017. و»هذا أمر قد يكون طبيعياً، لا بل حتى مطلوباً نظراً لمرتبة لبنان المتدنية جداً على سلم مدركات الفساد»، برأي عضوة المجلس الاستشاري للمبادرة اللبنانية للنفط والغاز «LOGI» ديانا القيسي، «حيث يصنف لبنان من أكثر 5 بلدانٍ فساداً على وجه الكوكب. وعليه يجب «تحصين» الصندوق السيادي لعوائد النفط والغاز، من خلال ضمان وجود إدارة شفافة، ومراقبة فعلية مشتركة بين الجهات الرسمية والمجتمع المدني. كما يجب أن لا يكون خاضعاً لسلطة وزارة محددة أو جهة معينة. ذلك أن الوزارت في لبنان تخضع للأحزاب السياسية وليس العكس.
الثغرات في القوانين
مقترحات القوانين التي جرى تقديمها منذ العام 2017 والمتعلقة بإنشاء الصندوق السيادي، والشركة الوطنية للنفط، وكيفية إدارة الاصول، والانشطة البترولية على البر جرى إيقافها. «إذ إن مجمل هذه المقترحات تضمنت ثغرات خطيرة»، بحسب قيسي، فـ»المقترح المقدم من حركة «أمل» نص على أن تكون وزارة المالية هي الوصية على الصندوق، من دون أن يكون هناك أي آلية ملحوظة لمراقبة الصندوق من جهات أخرى، ولا حتى تأكيد على إصدار تقارير سنوية أو نصف سنوية يستطيع أن يطلع عليها مجلس النواب. فيما تضمن المقترح الآخر المقدم من النائب سيزار أبي خليل ثغرات أيضاً في مجال ضمان الحوكمة الرشيدة والشفافية.
المداورة في الصندوق
أجدد مقترحات القوانين قدمه رئيس كتلة «اللقاء الديمقراطي» النائب تيمور جنبلاط . إذ اقترح أن يوضع الصندوق بعهدة مؤسسة عامة تحمل طابعاً خاصاً، على أن تكون رئاستها مداورة. وبحسب المحامية المتخصصة بقطاع النفط والغاز لما حريز، فان هذا المقترح يصيب «عصفوري» المصلحة العامة، وإيجاد الحل لمأزق المحاصصة بـ»حجر» القانون الواحد. حيث يتشارك بإدارة الصندوق رئيسه مع أعضاء مجلس الادارة المنخرطين في أخذ القرارات. على أن تصدر بطريقة تسلسلية من الأقسام إلى المديريات وصولاً إلى مجلس الإدارة. أمّا في ما يتعلق بالرئاسة فتكون مداورة بين أعضاء مجلس الإدارة. وذلك على غرار نظام هيئة إدارة قطاع النفط. حيث يتداور على إدارتها لمدة 6 سنوات عضو من أعضائها الستة كل سنة بحسب التسلسل الابجدي للأسماء». الأمر الذي يشكل مهرباً من المحاصصة بين الطوائف.
كيفية توزيع العوائد
أمام هذا الواقع تضافرت الجهود الرسمية والمدنية في العام 2019 لتوحيد الرؤى حول الصندوق السيادي. وقد استعانت ورش العمل التي ضمت خبراء في مجال الطاقة والمحاسبة ومكافحة الفساد ومستشاري الوزراء والرؤساء بالخبير العالمي المتخصص بالصناديق السيادية اندرو باور، لتحديد هدف لبنان من الصندوق السيادي. وقد جرى الاتفاق بين الجميع على أن يكون صندوقاً «لحفظ المال»، تقول قيسي. «بمعنى أن لا يكون «قجة» نستطيع كسرها عند الحاجة». ولتحقيق هذا الهدف اتُفق ايضاً على ضرورة حل الأزمة المالية قبل إنشاء الصندوق. وتحديداً، لجهة تخفيض حجم الدين إلى الناتج ووضع سقف لتطور الدين العام. ذلك أن المبالغ التي ستتجمع في الصندوق سيجري استعالمها عند أول أزمة تصيب الاقتصاد، سواء كان صندوقاً إدخارياً أو إستثمارياً أو خلافه. وكانت وقتها بوادر الانهيار قد بدأت تلوح في الافق. وهذا ما فعلته قبرص التي حددت سقف الدين قبل أن تبادر إلى تحديد أهداف صندوقها السيادي.
غاية الصندوق
من بعد معالجة أزمة الدين، يجري الإنتقال إلى تحديد الغاية من الصندوق. فهل يكون إدخارياً كما في النروج، أو استثمارياً كما في الألاسكا. أمور وإن كان من المفترض الاتفاق عليها مسبقاً، فيجب أن تراعي بحسب حريز 3 أمور أساسية:
– الثروة النفطية غير متجددة، وهي ستنضب بعد فترة مهما طالت. لذا يجب إستغلال الأموال التي تنتج عنها لتجديد الاقتصاد. وذلك من خلال تحويل هذه الثروة إلى متجددة عبر الاستثمار في القطاعات الانتاجية والطاقة البديلة.
– أن هذه الثروة ملك الشعب. وبالتالي كل الشعب يجب أن يستفيد منها.
– أن لا يستعمل الغاز لتوليد الكهرباء. لانه بذلك نكون نحرق الثروة في معامل الانتاج، كما حرقنا عشرات مليارت الدولارات خلال السنوات الماضية.
– أن لا يصار إلى تخصيص هذه العائدات لهدف واحد. كأن تستعمل لحفظ حق الأجيال القادمة فقط أو تسديد دين الدولة أو تعويضات لأشخاص معينين. هذه الاهداف تتطلب تعديل المادة الثالثة من القانون 132/2010. والتي نصت وقتها على وضع العائدات النفطية في صندوق سيادي للأجيال القادمة. فـ»هذه المادة التي وضعت على عجل، ومن دون التفكير في البدائل يجب تعديلها لاستخدام العوائد لتعزيز الاقتصاد»، من وجهة نظر قيسي. «خصوصاً أن المبالغ المتوقعة تقدر بين 1.7 و2 مليار دولار على 15 عاماً. وبالتالي هي مبالغ متواضعة بالمقارنة مع ما صرفه لبنان خلال سنوات الازمة على الدعم وغيره، ويجب استخدامها بحكمة لما فيه مصلحة البلد».
نواة الصندوق متوفرة
على الرغم من أن تحقيق العوائد قد يطول لسنوات، هذا في حال توفر النفط والغاز، فان إنشاء الصندوق السيادي يجب أن يحصل بأسرع وقت ممكن. فنواة هذا الصندوق بدأت تتشكل وهي عرضة للضياع. «فهناك على سبيل المثال 45 مليون دولار ناتجة عن المسوحات الزلزالية موجودة في حساب بمصرف لبنان بإمرة وزارة الطاقة والمنشآت النفطية، فهل من أحد يسأل عن مصير هذا المبلغ وإن كان قد استخدم لهدف آخر أم لا»، تسأل قيسي. لتجيب أن «أي مبلغ يتعلق بالانشطة البترولية يجب أن يوضع في الصندوق السيادي». هذا بالاضافة إلى أنه من الممكن إتمام عمليات بيع مسبقة للنفط في حال توفر المواد بعد عمليات الاستكشاف.
النقاش حول الصندوق السيادي بدأ في لجنة المال والموازنة وحول منها إلى لجنة فرعية. وبحسب الوعود التي تطلق فان مواصفات هذا الصندوق حددت بثلاث وهي: أكبر قدر من الاستقلالية الفعلية عن الإدارة المالية للدولة اللبنانية، وسياستها المالية، وعجز موازناتها. وعلى أمل أن يبصر الصندوق النور قريباً، تبقى الانظار شاخصة نحو الوقت الذي سيتطلبه إنجاز هذا المشروع.
مبادئ سنتياغو
شدد رئيس لجنة المال والموازنة النيابية إبراهيم كنعان على اهمية ادارة وحوكمة الصندوق التي تخضع للمعايير الدولية التي حددها صندوق النقد الدولي في الـ2008 والتي عرفت بمبادئ سنتياغو. فما هي هذه المبادئ؟
مبادئ سانتياغو هي مجموعة من القواعد الاساسية أعدتها مجموعة العمل الدولية حول الصناديق السيادية ووافقت عليها اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية التابعة لصندوق النقد الدولي. تتألف مبادئ سانتياغو من 24 مبدأ تحدد أفضل الممارسات الخاصة بالحوكمة والاستثمار وإدارة المخاطر للصناديق السيادية.
المبادئ هي إجراءات ومعايير موحدة تشجع على الشفافية، الإدارة الرشيدة، المساءلة وممارسات الاستثمار الحكيمة. وبالتالي، تساهم صناديق الثروة السيادية في استقرار النظام المالي، وتقلل من الضغوط الحمائية وتساعد في الحفاظ على مناخ استثماري مفتوح ومستقر.
عوائق مستقبلية
تنص اتفاقية المبادئ الجانبية بين توتال واسرائيل الملحقة باتفاق الترسيم في النقطة الخامسة من المبادئ العامة على التالي: «بقدر ما تتطلب عمليات الحفر والتقييم والتطوير جنوب الخط الحدودي من أجل تطوير المكمن ان يعمل الكونسورتيوم بموجب القوانين الاسرائيلية.
أما بقية النقاط فواضحة جداً لجهة مطالبتها الكونسورتيوم النفطي «توتال وإيني» بأوسع تنسيق مع الجانب الاسرائيلي لجهة المشاركة بالمعلومات في البلوك رقم 9، وموافقة إسرائيل على الشريك الثالث الذي سيحل مكان الشركة الروسية المنسحبة نوفاتك، والاتفاق على خبير مشترك في حال نشوب نزاع.
وهنا يبرز سؤال أساسي عن موقف لبنان ومسار الحفر والاستكشاف في حال لم يدخل القطريون، أو أي فريق آخر كشريك ثالث في الكونسورتيوم بنسبة تمويل 20 في المئة في غضون الثلاثة أشهر القادمة وعادت الملكية إلى الدولة اللبنانية؟ فموقف لبنان واضح لناحية عدم دخوله في الائتلاف، فيما تفرض القوانين أن يكون الكونسورتيوم مؤلفاً من 3 شركات عالمية مختصة بالموضع النفطي. الأمر الذي يعني توقف الأعمال بشكل كلي.
أما النقطة الثانية والتي قد تولد إشكالية مستقبلية، فتتعلق بحجم المخزون النفطي المتوقع إكتشافه في حقل قانا، وما إذا كان يستأهل تخصيصه ببنى تحتية للنقل أو التخزين. وفي حال كان الجواب بالنفي، فان الغاز سيبقى في أرضه نظراً لعدم إمكانية شبك الحقول في البلوك رقم 9 القريبة من كاريش بالخط الذي ينقل الغاز الاسرائيلي إلى مصر ومنها إلى العالم عبر تقنية البواخر.
هذه الاسئلة وإن كانت لا تزال في إطار الفرضيات، إلا أنها تستوجب أجوبة واضحة وصريحة. ولا سيما مع تصوير المنظومة الغاز المزمع استخراجه كمنقذ حقيقي للبلد من كل أزماته. فيما قد لا يكون في الحقيقة سوى مخدر جديد يعطي المواطنين، ولا سيما شريحة المودعين منهم، أملاً زائفاً.
الإنتاج يتطلب بين 6 و13 سنة
تشير الوثائق المترجمة من اللغة العبرية إلى أن مراحل تطوير المكمن (حقل قانا المحتمل) ومحطات الاتفاق تتطلب بين 6 و13 سنة. وذلك وفقاً للمعادلة التالية:
مرحلة التنقيب تتطلب بين 2 و4 سنوات.
مرحلة التقييم تتطلب بين سنة واحدة وسنتين.
مرحلة التطوير تتطلب بين 3 إلى 7 سنوات.
هذا إذا افترضنا طبعاً سير الأمور بسلاسة. أما في حال نشوب نزاعات وخلافات فان الوقت الذي قد يتطلبه استخراج النفط والغاز سيطول أكثر من ذلك.