Site icon IMLebanon

السلام السوفياتي والمكابرة الإيرانية على حيثيات «الاتفاق»

بخلاف الأيديولوجيا الايرانية الرسمية، التي تتعرّف غالباً على «اللاحرب واللاسلم» كحوض حيويّ لها، فقد تميّزت الأيديولوجيا السوفياتية الرسمية في مرحلة الحرب الباردة بافراد مساحة واسعة للتشديد على فكرة السلام والتعايش السلمي. لينين نفسه، أعادت انتاجه كفيلسوف سلام بالدرجة الأولى. 

أكثر السوفيات أحاديث السلام بشكل مملّ، ومحبط بالنسبة الى الحالمين بالزحف الأحمر وفتح الصراع الطبقي على مصراعيه في الدنيا. الأيديولوجيّون الرسميّون كانوا أكثر صدقاً: كان يحلو لهم الكذب عندما يتعلّق الأمر بروزنامة بناء الاشتراكية، ويكذبون عندما يهدرون الحقوق القومية لشعوب كثيرة، لكنهم كانوا صادقين في تبنيهم لفكرة السلام. لم يحصروها بالسلام بين الشعوب. كانوا جاهزين دائماً للايضاح بأنّه سلام مع الدول الامبريالية، وأنّهم يتطلّعون الى تثبيته، فليس هو بحالة عارضة يتحضّرون للانقضاض عليها حين تكمل الاستعدادات. كان السلام بالنسبة للايديولوجيا السوفياتية قناعة واقعية أساسية، بأنّ المواجهة مع الخصم، على طريقة الحربين العالميتين، وفي ظل امتلاك كل من الجبارين للسلاح النووي، هي مواجهة تدميرية لكوكب الأرض، إمكانُها استحالة. 

لم ينتظر الاتحاد السوفياتي مجيء ميخائيل غورباتشوف للحديث عن السلام. بعد الحرب العالمية، كل قادة الدولة والحزب أدمنوا ذلك. وكان يمكن للدعاية السوفياتية أن تقدّم أي سقوط لنظام عسكري مدعوم أميركياً في جنوب اوروبا او العالم الثالث، على انه انتصار لمعسكرها، وأي «رقم» متقدّم يسجّله حزب شيوعي في انتخابات باوروبا الغربية على انه مبايعة لنموذجها، لكنه لم يكن وارداً عندها اعتبار أي انفراج في العلاقات الدولية، وأي معاهدة حدّ انتشار أسلحة، «انتصاراً» على الامبريالية. صحيح أنّه في المقلب الآخر، كان هذا الاقرار بجوهرية السلام العالمي مدخلاً الى جنون يتمثّل بالمنافسة بين «النموذج السوفياتي» وبين النماذج المعاشة في البلدان الغربية، وهذه منافسة خاسرة سلفاً لموسكو، الا ان الاقرار بأساسية السلام كان يسنده تسويغ أيديولوجيّ صارم، لا هو يعتبر السلام لحظة ما بين حربين، ولا هو يعتبره مجرّد حرب من نوع آخر. 

الأيديولوجيا الايرانية لا تستطيع في المقابل أن تتعايش مع فكرة السلام، وإن فعلت تريد أن تفهمك انّها تقدم على ذلك إما على مضض، وإمّا لأنها «منتصرة». في الحالتين، لا وجود لفكرة السلام، لا تجاه الجوار الاقليمي، ولا تجاه «الدول الامبريالية». تتحرّك هذه الأيديولوجيا بالمظلومية من ناحية، والانتصاروية من ناحية أخرى، ولا ترى الا بهاتين العينين. تفتقر حينها لأيّ قدرة على محاكاة فكرة السلام الا من حيث هو لحظة عارضة تفصل بين مواجهتين حربيتين. وهكذا، حين يوقع اتفاق نووي يفترض فورياً كفّ ايران عن أي مزعم توازني استراتيجياً مع اسرائيل، ترى ضيق المحافظين داخلها من مندرجات الاتفاق وتداعياته «الظالمة»، في حين ترى احتفال الموالين لها، بالاتفاق، على أنه «انتصار»، وليس أبداً من زاوية أنّه انتصار لفكرة السلام فيهم، أو لحبّ السلام عندهم، بل انتصار لفكرة الانتصار المعلّق في الهواء. 

كانت الأيديولوجيا السوفياتية تعيسة في جوانب عديدة، يبقى أنّها لم تكابر على فكرة السلام، بل احتضنتها، وربما أكثر من اللازم. الأيديولوجيا الرسمية الايرانية فيها جوانب عديدة تذكّر بتلك السوفياتية، الا انّ مركّب المظلومية والانتصارية، قد يتيحان لطهران لياقات تفاوضية هنا وهناك، لكن ما لا يتيحانه لها هو الخروج من دائرة المكابرة بشكل عام، وتقبّل فكرة السلام دون حرج ولا استعراض بشكل خاص. اتفاق الاطار لوحده لا يكفي لمعالجة «الحساسية تجاه فكرة السلام تلك».