IMLebanon

والد لورين يروي: استفزّتني رؤيتها وحيدة في زاوية الملعب

 

دعم الوزارة لذوي الإحتياجات الخاصة لا يتجاوز 0.58% من الموازنة

 

 

القدر يفعل ما يشاء. وقدر لورين، ابنة التسع سنوات، شاء أن تكون منذ لحظة ولادتها ضحية جهل مجتمعي متوارَث، وقطاع طبّي متفلّت ودولة انعدمت فيها شتّى أنواع الحماية والرعاية لأبنائها. إنها حكاية المئات، لا بل الآلاف، من ذوي الاحتياجات الخاصة تُروى على مسامعنا على لسان والد تسلّح بالأمل رغم العثرات. ومن الضحية رسالة لمن يهمّه الأمر: «تقبّلونا ولا تُشفقوا علينا… نحن مختلفون ولسنا متخلّفين». رسالة تختصر كلّ شيء.

 

بدأت القصة منذ أسبوعين تقريباً. يومها توجّه رياض بابنته لورين، من ذوي الاحتياجات الخاصة، إلى أحد أندية كرة القدم سعياً وراء تحقيق رغبتها في تطوير هوايتها المفضّلة. لكن المفاجأة حلّت حين انتهى الأمر بـ»طرد» الاثنين من الملعب، رغم إمكانيات لورين الجسدية السليمة. فقط لأنها… مختلفة. إلى الوراء بعض الشيء. بعد ثلاثة أيام من ولادتها، راحت لوري تعاني من «يرقان الرضّع»، وأخذت حالتها تتطوّر شيئاً فشيئاً إلى أن تضرّر العصب السمعي والحركي لديها. جهل مجتمعي، متزامن مع استهتار طبي، أودى بلورين إلى عالم ذوي الاحتياجات الخاصة. ومن هناك انطلقت الرحلة.

 

 

 

تهميشٌ… وطردٌ

 

نتّصل بالوالد، رياض، الذي أصرّ على اعتبار ابنته ضحية جهلَين رئيسيّين: المجتمع والطب. «حين بدأنا نلحظ اصفرار لورين بعد ولادتها، ولم يكن لدينا أي خبرة في تربية الأطفال، راح الجيران والأصحاب يمعنون في طمأنتنا بأنها حالة طبيعية لا تستدعي الخوف. وهذا ما جعلنا نتأخر في نقلها إلى المستشفى فوقعنا ضحية الثقة بِجهل المحيطين بنا». ليس هذا فحسب. فبدلاً من القيام بتغيير دم الطفلة عند وصولها إلى المستشفى، إذ كانت حالتها قد تفاقمت بشكل جدّي، تمّ التعاطي معها بخفّة، إذ اكتفى الأطباء بتعريضها للضوء كأي حالة يرقان عابرة. وكانت النتيجة خسارة لورين سمعها كما حركتها الطبيعية. رحلة العلاج لم تكن سهلة حيث خضعت لورين بعد خمس سنوات لعملية زراعة قوقعة الأذن ما جعلها تستعيد سمعها. وترافق ذلك، ولا يزال، مع علاج نفسي وحركي، كما علاج تقويم النطق، ما انعكس تحسّناً واضحاً في حالتها. «حركتها الجسدية أصبحت ممتازة لكنها لا تتكلم بشكل صحيح. ذلك أن عمرها السمعي، مقارنة برفاقها بعمر التاسعة، هو أربع سنوات فقط»، كما يضيف الوالد.

 

 

رياض الذي كرّس حياته لكسر حاجز الخوف لدى ابنته، أكّد أنه لا ولن يسمح لأحد بالتعاطي معها وكأنها مختلفة عن الآخرين. فتراه يحاول دمجها أينما سنحت له الفرصة بذلك. وكون لورين من عشّاق كرة القدم، اصطحبها إلى أحد الأندية الرياضية متوقّعاً التعاطي معها باحترام وتشجيع من قِبَل القيّمين، ليتفاجأ بردّ فعل المدرّب الذي امتنع عن استقبالها بذريعة التسبّب له بإحراج أمام باقي اللاعبين. «المشهد الذي استفزّني هو رؤية ابنتي وحيدة في زاوية الملعب في حين كان هناك أكثر من أربعة مدرّبين بين الأولاد. فتساءلت في قرارة نفسي عن المانع من قيام أحد هؤلاء بالاهتمام بها. عندها توجّهت إلى الملعب طالباً إذن الدخول للقيام بتدريب ابنتي بذاتي حفاظاً على صحتها النفسية واستدراكاً لسياسة التهميش التي واجهتها، فما كان من المدرّب إلّا أن طردنا خارجاً».

 

 

 

بَشرٌ بهويّات مختلفة

 

لورين حالة من حالات أخرى كثيرة. لكنها حظيت بوالدَين لم يخجلا بها بل تحدّيا الصعوبات من أجلها وكسرا حاجز الصمت وتكلّما بجرأة. لكن كما يقال دائماً، الرهان على الوعي وليس على القوة في تقبّل المجتمع لذوي الاحتياجات الخاصة، في ظلّ غياب أي قانون وسياسة ترعى حقوقهم وتحمي وجودهم. في هذا السياق، تشير المعالجة النفسية، جمال شيا، في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن نظرة المجتمع إلى ذوي الاحتياجات الخاصة على أنهم عاجزون هي مغلوطة وسلبية. إذ إن العديدين منهم تمكّنوا من تحقيق نجاحات مبهرة في كافة المجالات. «من هنا ضرورة دعمهم وتفهّمهم الاجتماعي والنفسي كما الابتعاد عن إبداء الشفقة تجاههم. ويبدأ ذلك من العائلة نفسها التي يجب أن تعي أن وجودهم هو أمر بديهي وأن تدرك أنهم أشخاص عاديون يمكن أن يكونوا فاعلين ومنتجين شرط توفير التدريب المناسب لتنمية مهاراتهم ودعمهم على الصعيدين العاطفي والنفسي»، بحسب شيا.

 

لكن السؤال الذي يتكرّر: كيف يمكن تحضير المجتمع لتقبّل هؤلاء وتعلّم كيفية التعاطي معهم؟ المهمة مشتركة بين العائلة والمدرسة وكافة المؤسسات من أجل نشر الوعي حيال حقوقهم وحمايتهم ومساعدتهم على التفاعل والاندماج. ومن المهم كذلك تربية الأجيال على تقبّل الآخر بغضّ النظر عن اختلافه والتعامل معه بصورة طبيعية دون إظهار أي ردّ فعل مبالغ به، كما احترام ردودهم وفهم حاجاتهم. وتتابع شيا: «يلي ذلك دور المجتمع والمدرسة والجمعيات في تهيئة وتدريب اختصاصيين للتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل صحيح. فهم لديهم مشاعر ويجب تشجيعهم على التعبير عن أحاسيسهم كما الثناء على أي مبادرة يقومون بها. نحن جميعنا بشر بخصائص مختلفة تحدّد هويتنا».

 

نعود إلى لورين ونستفسر عن تداعيات عدم قبولها في نشاط رياضي من شأنه دمجها مع أطفال آخرين. شيا لفتت إلى أن النشاطات الرياضية تُعدّ إحدى أهم الوسائل التي تلعب دوراً إيجابياً وفعالاً في ترقية الجانب الصحي والنفسي والاجتماعي للفرد بشكل عام ولذوي الاحتياجات الخاصة بشكل خاص. وممارسة الرياضة تحديداً تساعدهم حتماً على التكيّف مع وضعهم وتحقيق اندماجهم الاجتماعي. هذا مع التشديد على دور الأهل في التعبير عن مشاعرهم حيال إنجاب طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة وقبول التحدّي كون متطلبات تربية هؤلاء كثيرة جداً. «على الأهل أن يكونوا أكثر إدراكاً لمدى تأثّر معنويات أولادهم العالية تارة والمنخفضة تارة أخرى ولمستوى الضغط الذي يتعرّضون له في حياتهم اليومية. كما عليهم أن يتقبّلوا إنجازات أبنائهم وإخفاقاتهم، مدركين أنهم المصدر الأبرز للدعم والتشجيع»، والكلام دوماً لشيا.

 

حسناً. لكن من يحمي هؤلاء في ظلّ غياب تامّ للسياسات والمبادرات الرسمية؟ كما بتنا نعلم، لقد أطلقت وزارة التربية، بتمويل من الاتحاد الأوروبي واليونيسف، السياسة الوطنية للتربية الدامجة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان لضمان تعليم جيّد ودامج وتعزيز فرص التعلّم للجميع. أما التطبيق العملي فله متطلّباته الخاصة. «تتطلب هذه العملية الكثير من الجهد والدراسة انطلاقاً من التنسيق بين وزارة التربية والقضاء لمعالجة قوانين التمييز العنصري. ويبقى على الجمعيات والمدارس والمؤسسات توعية المجتمع وتحضيره عبر وسائل الإعلام ومن خلال التواصل مع أصحاب الاختصاص. إنها الطريقة الأمثل للوصول إلى تربية دامجة وإلى مجتمع راقٍ نتقبّل فيه الآخر ونرتقي»، كما تختم شيا.

 

لا قانون ولا ميزانية

 

نحمل قصة لورين، ومعها قصص كثيرين من أمثالها ومثيلاتها، في زيارة إلى مكتب وزير الشؤون الاجتماعية، الدكتور هكتور حجار. حرارة الطقس في ظلّ انقطاع التيار الكهربائي في ذلك المبنى، ترافقت مع صرخة أُطلقت من قِبَله في بداية الحديث: «مطلوب منّي متابعة الأطفال المرميّين قرب مكبّات النفايات، وبرامج الحماية والجمعيات، كما قضايا النساء المعنَّفات وعمالة الأطفال ومعالجة مشاكل ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السنّ والمصابين بالسيدا و… كلّ ذلك تحت سقف مبلغ يعادل 0.58% من ميزانية الدولة اللبنانية. فماذا عساني أفعل؟». التحدّيات كثيرة، وفق الوزير حجار، ونتفهّم. لكن أين القانون الذي يحمي حقوق لورين وسواها من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ القانون رقم 220/2000 منح هؤلاء الأفراد حقوقاً عدة، كما تضمّن الكثير من المحفّزات، لكن ما ينقصه هو المراسيم التطبيقية التي لم يحرّك مجلس النواب ساكناً لإقرارها منذ العام 2000 باعتبار أن الملف ليس من أولويات أعماله. ويا للأولويات…

 

إذاً، لا قانون يُجبر أي نادٍ رياضي على استقبال فردٍ من ذوي الاحتياجات الخاصة. فالموضوع بحسب حجار يستدعي قراءة هادئة تتمحور حول تحضير المكان، أولاً، وشرح الحالة لإزالة المخاوف التي تتحكّم بالمجتمع تجاه هؤلاء الأشخاص، ثانياً. من هنا شدّد على ضرورة الدمج الذي اعتبره ثقافة، والثقافة هي مسار لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها. «نحن ننتقل من ثقافة لا دامجة نخجل فيها بحسب معتقداتنا من هؤلاء الأشخاص، إلى ثقافة دامجة على عدة مستويات، وهذا يتطلّب المزيد من الوقت». تربوياً، كما تجدر الإشارة، يبلغ عدد المدارس الرسمية الدامجة 60 مدرسة، لكن الخطوة غير كافية إذ ينقصها المزيد من الخبرات والتدريب. أما في ما يختص بالجامعات، فقد تفرّدت جامعة سيدة اللويزة بمبادرة دمج ذات صلة.

وعود ومناشدة لكن…

 

ماذا عن القطاعات الأخرى؟ «ما زال الدمج غائباً كلياً على المستويين الرياضي والسياحي رغم المبادرات الخجولة التي تقوم بها الوزارة، منها دعم نادي عمشيت لكرة اليد، بالمشاركة مع السفارتين الأسترالية والألمانية، لدمج اللاعبين ذوي الاحتياجات الخاصة وتأمين مستلزماتهم. أما سياحياً فنعمل حالياً مع وزارة السياحة لإدخال السياحة الاجتماعية على الخط، لكن الخطوة تحتاج إلى تعديل في القانون، يجبر مثلاً أي عمل سياحي على استقبال 5% من جمهوره من ذوي الاحتياجات الخاصة ومجاناً». نصغي إلى حجار الذي يتطلع أيضاً للتعاون مع مجلس البحوث والإنماء في مراحل مقبلة لضرورة أن يطال الدمج المناهج التعليمية هي الأخرى.

 

140 ألف إعاقة في لبنان تنتظر رحمة القطاع الخاص. إلى هؤلاء أطلق حجار وعداً بأن يكونوا الأولوية على لوائح الدعم في البرامج كافة، مشيراً إلى جهود مشتركة مع ديوان المحاسبة لإنصاف الجمعيات الخاصة التي أصبحت على شفير الهاوية. وللحكومة مجتمعة توجّه بالقول: «تريدون ألّا يُرمى أطفالنا في مكبّات النفايات وألا يقعوا ضحية الاغتصاب؟ هذا يتطلّب ميزانية تعيد عمل كافة مراكز الخدمات في دولة منهارة اقتصادياً وعلى أرضها أكثر من مليونَي نازح سوري. تعبنا من «الشحادة» لمواجهة الفقر، ولتكن موازنة وزارة الشؤون الاجتماعية سيادية لا تقلّ عن 20% من الموازنة العامة».

 

مناشدات كثيرة ووعود مع وقف التنفيذ. لورين في الأثناء تبقى تترقّب. لعلّ قضيّتها – هي ورفاقها – تُبعثر بعضاً من الأوراق، فيصبح ملفّهم أولوية على أحد جداول الأعمال…