يتسابق أهل السلطة في الإعلان عن طروحات لتهدئة خاطر الشعب الثائر ظنّاً منهم أن الناس لا تزال تثق بأنهم جدّيون في مكافحة الفساد أو أقلّه وقف مزاريب الهدر والسرقات.
وفي سياق مباريات المبارزة التي تدور رحاها على الساحة اللبنانية بينما البلاد تغرق في أزماتها الإقتصاديّة، أُعيد إلى الواجهة طرح إقتراح قانون معجّل مكرّر يرمي إلى إنشاء محكمة خاصة للجرائم المالية والذي تقدّم به العماد ميشال عون في 30 نيسان 2013. وترتبط المحكمة بحسب الإقتراح بمجلس النواب الذي ينتخبها، وتشمل صلاحياتها الجرائم الواقعة على الأموال العمومية في حال إرتكابها أو المشاركة في ارتكابها أو التغاضي عن ارتكابها من قبل الرؤساء والوزراء والنواب ومجالس الادارة والمجالس البلدية والموظفين والمستخدمين، من الفئات الثلاث العليا في الادارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات واتحادات البلديات سواء أكانوا في الخدمة الفعلية أو من السابقين.
وفي وقت يطمح لبنان إلى التحرّر من العقلية القديمة التي أوصلت البلاد إلى الإنهيار، يرى الشعب أن لا أمل في هذه السلطة الحاكمة، خصوصاً أن فكرة المحاكم الخاصة غير مرحّب بها، ولم تُعطِ ثمارها على مرّ الأيام.
ويبقى الأساس بالنسبة إلى المواطن هو مكافحة الفساد وتطبيق القوانين الموجودة التي توصل إلى هذه النتيجة لا إنشاء مؤسسات جديدة تزيد الفساد فساداً، علماً أن إنشاء هذه المحكمة يتمّ عبر انتخابها من مجلس النواب، أي انها محكمة غير مستقلة لأن المجلس مختزل بكتل نيابية متّهم معظمها برعاية الفساد.
ويتذكّر الجميع ماذا فعلت المحاكم الخاصة وعلى رأسها المحكمة العسكرية في قضية الوزير السابق ميشال سماحة الذي نقل متفجرات من سوريا إلى لبنان من أجل تنفيذ أعمال إرهابية، ففي 14 كانون الثاني 2016، وبعد ثلاث سنوات ونصف السنة من السجن، أصدرت المحكمة العسكرية قرار إخلاء سبيله بعد دفع كفالة مالية ومنع سفره، ما دفع وزير العدل آنذاك اللواء أشرف ريفي إلى الثورة ضد هذا القرار، ودعوته إلى إلغاء المحكمة العسكرية ومن ثم استقالته من الحكومة.
وفي سياق تعليقه على الإصرار على إنشاء محكمة خاصة للجرائم المالية، يؤكّد ريفي في حديث إلى “نداء الوطن” أنه ضدّ إنشاء المحاكم الخاصة بالمطلق، ويؤيّد المحاكم المتخصصة على أن تكون جزءاً من الجسم القضائي وليست منفصلة عنه”.
ويشير ريفي إلى أن كل المحاكم الخاصة في العالم سقطت فلماذا يُعاد إحياؤها في لبنان في هذا الظرف؟ وهناك أمثلة فاشلة عن هذه المحاكم مثل المحكمة العسكرية التي فعلت ما فعلته في قضية سماحة، إضافة إلى المجلس العدلي الذي لا يحاكم إلا بدرجة واحدة، وهذا أمر لا يجوز، كما أنه لا ينظر بأي قضية إلاّ إذا أحالها مجلس الوزراء إليه.
ويلفت ريفي إلى انه تقدّم بمشروع من أجل استقلالية القضاء وتنظيمه ويحاكي الدول المتقدمة، ويشدد على أن اقتراح قانون إنشاء محكمة خاصة للجرائم المالية أتى خارج سياقه الزمني ومعاكساً لتطلعات الثورة والناس ولن يمرّ. ويعطي مثلاً عن قانون الإثراء غير المشروع الذي هو جيد في المضمون لكنه غير قابل للتطبيق.
ويدعو ريفي إلى تفعيل آليات المراقبة وتطبيق القوانين الحالية وعدم الدخول في المزايدات، لأن الثورة مستمرة والشعب يريد محاكمة الفاسدين وليس ابتداع مخارج لهم. ولم يمر إقتراح إنشاء محكمة خاصة للجرائم المالية مرور الكرام على نادي قضاة لبنان، حيث أعلن أن هذا العنوان الجذّاب يتناقض مع مضمون الإقتراح، إذ إن قراءة مواد إقتراح القانون المتعلّقة بتشكيل المحكمة وبإحالة الأشخاص إليها يُبيّن أنها تتضمن بذور تعطيلها وأن الغاية منها لن تتحقّق، لا بل العكس، فإنها ستؤدي إلى منح حصانة إضافية لمن تُفترض محاكمته، وستزيد الإحباط بشأن أي عملية إصلاحية. كذلك، فقد أثبتت التجربة العملية أن المحاكم الخاصة المنتخبة من قبل مجلس النواب أو المعيّنة من قبل مجلس الوزراء، كانت إما معطّلة لم تقم بدورها مطلقاً وإما تابعة حقّقت إرادة مَن عيّنها في أغلب الأحيان، وخير مثال على ذلك المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
ويعلن الوزير السابق زياد بارود رفضه لهذا المشروع وتأييده لمضمون بيان نادي القضاة، معلناً رفضه وعدم تحبيذه للمحاكم الخاصة. ويطالب عبر “نداء الوطن” القضاء العادي بالقيام بواجباته، ويشير الى أن هناك عدداً من المحاكم الخاصة لكنني مع تقليصها، وعلى سبيل المثال هناك المجلس العدلي، وهو محكمة خاصة وبدرجة محاكمة واحدة وحكمه هو حكم نهائي وإذا وقع الخطأ فماذا يحل بالضحية؟
ويعطي بارود مثالاً ثانياً عن المحاكم الخاصة وهو المحكمة العسكرية التي من المفترض أن تكون مهمتها ملاحقة قضايا العسكريين وقد تم توسيع صلاحياتها لتشمل الجميع، لذلك يدعو إلى تقليص صلاحياتها. ومن جهة أخرى يطالب أيضاً بإلغاء محكمة المطبوعات.
ويضيف: “سأسلّم جدلاً أن هذا الإقتراح يُطرح بنية حسنة، فلماذا الذهاب إلى محاكم خاصة؟ فبدل إنشاء هكذا نوع من المحاكم يجب تفعيل دور القضاء، وحتى في التشريع، فالقوانين الموجودة كفيلة بمكافحة الفساد لكن العبرة في التطبيق”. ويلفت إلى “وجود قوانين جيدة لمكافحة الفساد وهو القانون 44/2015 المختص بمكافحة تبييض الأموال والإرهاب، ويتضمن فقرة إذا طبّقت تستطيع أن تعرف مصدر الأموال المنهوبة وحركة الرساميل غير الشرعية”.
ويبدي بارود مخاوفه من أن تقرّ هذه المحكمة في مجلس النواب ولا يتم إنشاؤها والقيام بدورها مثلما حصل مع المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. ويرى أن الأساس هو تفعيل هيئات الرقابة والقضاء وتطبيق القوانين، فنحن لسنا بحاجة إلى قوانين بل إلى تطبيق القوانين الحالية، ولنبدأ من هنا.