فرضت أوضاع السجون والسجناء نفسها على أحزاب السلطة وعلى عموم الوسط السياسي بعد دخول البلد عاصفة وباء كورونا وما يحمله من مخاطر على جميع اللبنانيين، بمن فيهم نزلاء السجون، ليدخل هذا الملف بازار السياسة كالعادة ويخضع للتجاذبات و«التفاهمات» التي لا تنطلق من مصلحة الناس بقدر استنادها إلى أغراض وأطماع أصحاب السلطة ومشاريعهم المحلية والخارجية.
تعمل السلطة على اتخاذ إجراءاتٍ ترقيعية لستر عورات المنظومة الأمنية والقضائية والسياسية التي أوصلت حال العدالة إلى التدهور الراهن وإلى غياب الانتظام الصحيح لسلك القضاء، كما كشفت أزمة الكورونا في السجون أن طرح ملف العفو العام لم يكن أكثر من وسيلةٍ للمتاجرة السياسية وتقطيع الإستحقاقات الانتخابية وتمرير الموجات الإستعطافية للرأي العام عند كلّ محطةٍ أو ذكرى أو مناسبة، وذلك بالتوزيع والتساوي على مجمل القوى التي لديها جمهورٌ له مطالب تستدعي هذا العفو الغامض والملتبس والمتعدّد الاستعمالات والجاهز ليكون أداة إسكاتٍ وتسويف ناجعة عند كلّ مأزق يعاني منه هذا الطرف أو ذاك.
«كورونا» وساعة الحقيقة
في أزمة الكورونا يبدو أن ساعة الحقيقة قد حانت، فسقطت الأقنعة وانكشفت الحقيقة: لا عفو عام، بل عفوٌ خاص يتحكّم به رئيس الجمهورية والفريق الحاكم، وليس لغيرهم أيّ دورٍ أو رأيٍ أو مشورة، لذلك لم يكن مشروع القانون الذي تقدّمت به النائب بهية الحريري باسم كتلة نواب المستقبل إلى مجلس النواب أكثر من خطوةٍ لرفع العتب وحفظ ماء الوجه بعد سنواتٍ طوال من الوعود الخائبة لأهالي صيدا ولعموم أهالي الموقوفين.
أدركت السلطة أنه لا يمكن تجاهل أزمة السجون وأنها ستشكّل انفجاراً وطنياً، واستغلّت حقيقة استحالة التوافق السياسي على فكرة العفو العام، لتلج إلى الأمر الواقع المتجسد في العفو الخاص، كما أعلنت وزيرة العدل ماري كلود نجم بأن «العمل جار على تكوين ملفات المحكومين الذين قد يشملهم مشروع العفو الخاص في حال إقراره»، ولفتت إلى أن «التنسيق قائم مع مديرية السجون في قوى الأمن الداخلي لتكوين هذه الملفات التي ستتضمن إفادات السلوك وخلاصات الأحكام، ليصار بعدها الى إحالتها على لجنة العفو الخاص، ثم النيابة العامة التمييزية وذلك قبل التوقيع الأخير من قبل رئيس الجمهورية، الذي عرضت عليه مشروع العفو الخاص في إطار الخطوات التي تهدف الى معالجة الإكتظاظ في السجون لا سيما بعد انتشار فيروس الكورونا».
وأشارت الوزيرة نجم الى أن «أعداد المخلى سبيلهم، في حال رأى هذا المشروع النور سيكون تدريجياً، أي بدءًا من الذي تبقّى من محكوميته شهر ثم شهران الى أربعة وخمسة وستة أشهر». وختمت: «لاحقا، قد نذهب الى أبعد من ذلك أي الى أكثر من ستة أشهر بعد التشاور مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون».
العفو الخاص يطوي العفو العام
يمضي مسار العفو في مسارات متداخلة:
– المسار التقني: الذي تعمل عليه وزارة العدل، ويقوم على تحضير الملفات ودراسة الحالات وإعطاء الأولويات وفق المعايير التي تحدّثت عنها الوزيرة نجم.
– المسار السياسي: وهو يتضمن التداخل بين مكوّنات السلطة وما ترغب في تحقيقه من خلال هذا العفو، إضافة إلى مساعي تيار المستقبل للدخول على الخط من خارج التركيبة، نظراً لحاجته إلى استرضاء الجمهور السني ولو من باب رفع العتب. إلا أن اليد العليا في العفو الخاص ستبقى لرئيس الجمهورية في القانون والسياسة وكيف سيتلقـّى مواقف مكوّنات الحكومة من الثنائي الشيعي ورئيس الحكومة حسان دياب الذي سيسعى بدون شكّ إلى تسجيل إنجاز في هذا المجال لتحسين موقعه داخل الصفّ السني مدعوماً بمساندة دار الفتوى.
«حزب الله» والسعي لإعادة إنتاج «الإرهاب السني»
– المسار المضمر: وهو يتضمّن الأهداف غير المنظورة لـ«حزب الله» الذي لا يريد فقط إخراج أعدادٍ من السجناء الشيعة الذين يحتاج إليهم لتنفيس الاحتقان داخل ساحته المأزومة بالحصار والكورونا، ولكنه يريد مدّ يده إلى ملف الموقوفين الإسلاميين، الذين يعمل على استقطاب أكبر عددٍ منهم على طريقة النظام السوري، الذي نجح في تحويل أعدائه إلى أتباعٍ بعد المكوث في السجن سنواتٍ طويلة، وهذا ما حصل مع كثيرين منهم في لبنان.
لا يمكن فهم هذا الاتجاه لدى «حزب الله» بدون التذكير بما جرى من حركةٍ لإطلاق السجناء في العراق وسوريا قبل انطلاق موجة تظيمي «الدولة الإسلامية» و«جبهة النصرة»، وما يجري حالياً من تكرارٍ لإطلاق السجناء في دمشق وبغداد، حيث يعلم الجميع حاجة إيران وأتباعها إلى إعادة إنتاج «الإرهاب السني» لحرف الحملة الأميركية على طهران وميليشياتها.
لا يعني هذا استجابة السجناء في لبنان لهذه الضغوط لكن لا شكّ أن رموزهم يتعرّضون لضغوطٍ وإغراءاتٍ عالية للإنخراط في تيار الحزب وسياساته، مما يسمح له بإحداث تصدّعاتٍ خطرة في الساحة السنية واللبنانية تالياً، وهذا يستدعي الوعي وحسن الإدراك من السجناء وأهاليهم في كيفية التعامل مع سلطة نفوذ الحزب وبشكل خاص لضمان عدم استخدام أبنائنا وقوداً لمشاريع الحزب الأمنية والسياسية.
لا رهان على السلطة
يبقى أن قضية السجون في لبنان تشكل وصمة عارٍ في جبين السلطة الحاكمة وأن ما تقوم به وزارة العدل في هذه الأزمة ليس أكثر من ترقيع لملفٍ يحتوي أوجاع الناس من العدالة المضطربة ومن الطغيان السياسي على القضاء، وإهمال السجون فهي لا تصلح لحياة البهائم، فكيف بالإنسان، من دون أن ننسى الخروقات لحقوق الإنسان بالتعذيب والإحتجاز الطويل الأمد وربما سنوات تحت ذريعة التحقيق، فضلاً عن كل تفاصيل حياة السجناء الصحية والإنسانية والإجتماعية، وغياب التأهيل والإصلاح وتحويل السجن إلى مقبرة حقيقية للسجين.
لن يطلب اللبنانيون من هذه السلطة التي أوصلت البلد إلى الحضيض إصلاحاً في ملف السجون، لكنهم يتوقعون أن تؤدّي التناقضات داخلها إلى شيء من الانفراج لهذه الفئة المظلومة، من دون أن يغيب عنهم أن لها في الأمر مآرب أخرى.