لا يختلف المراقبون على انّ بإمكانهم النظر الى اي خطوة يقوم بها أهل السلطة بمنطق «المؤامرة». فعمليات نصب الأفخاخ مستمرة لأسباب وجيهة او من دونها. ولم يخذلهم أهل السلطة يوماً، ولم يبعدوا الشبهات عن تصرفاتهم عندما تأتي النتائج متطابقة مع ما هو متوقع من مكائد. وبهذه النظرة يتطلع المراقبون الى مرسوم فتح الدورة الاستثنائية على انّه مشروع صفقة او فخ منصوب. فكيف ولماذا؟
قبل ان يُصدر رئيس مجلس النواب نبيه بري ظهر أمس بيانه المقتضب، تعقيباً على نص مرسوم العقد الاستثنائي الذي أصدره رئيس الجمهورية ميشال عون موقّعاً منه ومن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وما دلّ عليه من مشروع خلاف حول صلاحيات مجلس النواب، كانت مشاريع الشكوك بمضمون مرسوم الدورة وما احتواه من بنود جدول الأعمال، قد شكّلت مادة نقاش سياسي أكثر مما هو دستوري، بحثاً عن الخلفيات التي قادت الى تضمينه مجموعة من مشاريع واقتراحات القوانين التي تناولت ملفات خلافية كبيرة لا توافق مسبقاً حولها، عدا عن الملفات الإدارية والمالية والدستورية التي لا بدّ من تناولها لو كانت العلاقات بين رئيس الجمهورية والمؤسسات الدستورية طبيعية، بما تفرضه من تعاون وتنسيق مطلوب في ما بينها.
وردّ المراقبون هذه المناقشات التي غلّفتها انطباعات سلبية سبقت إصدار بري لبيانه، بالنظر الى ما نضح به مضمون مرسوم الدعوة من معطيات أضفت على الخطوة أجواء من الضبابية التي رافقت الحديث عن «ميني صفقة» جديدة عُقدت بين أطراف التسويات السابقة قبل انهيارها واحدة بعد أخرى منذ تعطيل اعمال مجلس الوزراء في تشرين الاول الماضي. وقيل انّ هذه الصفقة هي التي أدّت الى استعجال رئيس الجمهورية إصدار المرسوم. فهو شكّل في توقيته مفاجأة غير محسوبة، عقب اللقاء الثنائي الذي جمعه مع رئيس الحكومة في قصر بعبدا، وما ادّى اليه الإتصال الهاتفي «الغامض» الذي أجراه ميقاتي أثناء اللقاء مع رئيس مجلس النواب، والحديث المقتضب الذي دار بينه وبين رئيس الجمهورية، فأحضره طرفاً ثالثاً «افتراضياً» في اللقاء، وخصوصاً إن صحت الرواية التي قالت إنّ بري أبلغ الى عون قبل إقفال المخابرة القصيرة معه «أمله في فتح صفحة جديدة».
وفي الوقت الذي اعتبر البعض انّ قرار رئيس الجمهورية شكّل خطوة استباقية أدّت الى وأد مشروع العريضة النيابية التي وُضعت للطلب اليه بالدعوة الى فتح هذه الدورة، قبل ان تكتمل فصولها، منعاً لإحراجه وإرغامه على القيام بها، كانت هناك رواية اخرى توحي بوجود «ميني صفقة» لتبادل الخدمات المشروطة حكومياً ونيابياً. وكانت العريضة النيابية واحدة من أدواتها لاستعجال التفاهم حولها. فقد كان متوقعاً ـ كما روّجت له مصادر نيابية – ان تجمع العريضة أكثرية نيابية موصوفة وغير مسبوقة، لمجرد تجاوزها النقاش الذي كان دائراً حول النصاب القانوني في المجلس النيابي، وإن كان يجب ان يُحتسب على أساس عدد النواب الأحياء العاملين او العدد القانوني لأعضائه. وهي عريضة كانت بنتائجها الدستورية ستدفع عون بإرادته او من دونها، الى إصدار المرسوم، بعدما تسرّب في الكواليس السياسية أنّه ليس في وارد اتخاذ مثل هذا القرار قبل تحقيق بعض الخطوات التي يريدها. ومنها الدعوة الى إستئناف مجلس الوزراء اجتماعاته للبت بأمور كثيرة يرغب البتّ بها قبل نهاية ولايته، بعد أقل من 10 أشهر بقليل من اليوم.
ولما ردّ بري بعد اقل من 18 ساعة على نشر كتاب الدعوة الى هذه الدورة الاستثنائية، تعززت الشكوك التي كانت تبحث عنها بعض الجهات المعارضة. فبري أكّد مرة أخرى ما يرضي «الباحثين» عن «بوادر صفقة» او «فخ جديد» على الاقل، وخصوصاً عندما دافع عن صلاحيات مجلس النواب بقوله، انّ «المجلس سيّد نفسه ولا يقيّده أي وصف للمشاريع أو الإقتراحات التي يقرر مكتب المجلس طرحها، ويعود لرئيس الجمهورية حق الردّ بعد صدورها عن الهيئة العامة الى المجلس. هذا حكم الدستور وما استقرّ عليه الاجتهاد. فاقتضى التصويب».
وقبل انّ يقول بري كلمته او تزامناً مع نشرها، كانت دوائر بعبدا قد سارعت الى الردّ على بعض النظريات التي شكّكت بنيات عون وبحجم صلاحياته التي التزمها في مرسوم فتح الدورة، تأسيساً على ما قالت به «المادة 33» من الدستور، التي تميّز بين العقود العادية للمجلس (المادة 32 من الدستور)، وتلك الإستثنائية المنوطة بالدعوة إليها (المادة 33 منه) بمرسوم يوضع بالاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ويحدّدان فيه «افتتاحها واختتامها وبرنامجها».
وإن لم يردّ رئيس الجمهورية الردّ المباشر على تعليق بري، فقد سبقه التوضيح الرئاسي او تزامن معه، ليشكّل في الوقت عينه رداً واضحاً على ما قصده بري. فقد لفتت تفسيرات مصادر بعبدا لخلفيات الدعوة الى الدورة وقالت: «انّ ما قام به الرئيس ترجم المادة الدستورية الآنفة الذكر في شكل دقيق، وإن لم يعتد البعض على ممارسة أسلافه لصلاحياته» فإنّ عليهم مراجعة الدستور، ولذلك «لا يعدّ ما قام به في شكله ومضمونه خرقاً له»، ولا حاجة للنقاش في ما يسمّى «صلاحيات مجلس النواب»، فمضمون المادة 33 من الدستور لا يحتمل تفسيرات خاطئة.
وإلى ذلك، قالت مصادر بعبدا، انّ من الضروري البت بالقوانين التي سبق لعون ان طالب بإقرارها، ولا سيما منها تلك التي تتعلق بالإصلاحات الضرورية او بخطة التعافي المالي وغيرها من القضايا المعيشية، فضلاً عن قانون الكابيتال كونترول واستعادة الاموال المحّولة الى الخارج. واستطردت المصادر لتقول، «انّ الدعوة لم تمسّ صلاحيات المجلس، لا بل فقد تركت لهيئة مكتب المجلس ان تقترح ما تريده من اقتراحات او مشاريع القوانين للبت بها، رغم انّ المجلس ملزم بمناقشة المواضيع التي حدّدتها الدعوة من دون اي نقاش، وخصوصاً انّ من بينها ما يتصل بضرورة استكمال برنامج «التدقيق الجنائي»، وتلك المتصلة بالانتخابات النيابية. وإن ذهب فكر البعض الى نية رئيس الجمهورية إعادة البحث في ما أنهى المجلس الدستوري البحث في شأنه، من قانون الانتخاب وحق المغتربين في انتخاب النواب الـ 128، «فليسترح وليتيقن أنّه واهم»، فما انتهى اليه «اللا قرار» للمجلس الدستوري لا يحتمل اي شكل من أشكال المراجعة، وانّ رئيس الجمهورية لا يرغب بمخالفة الدستور.
وعلى هذه القواعد وبناءً على ما تقدّم من معطيات، فإنّ البحث عن «ميني صفقة» لن يتوقف وسيبقى مدار اخذ وردّ مهما انتهت اليه التفسيرات المتبادلة. ولذلك، فما صدر من توضيحات لا يكفي لوقف البحث على الخطين معاً بهامش واسع يتراوح بين النفي والتأكيد. فهناك من يعتقد انّ ابواب الصفقات والتسويات ستبقى مفتوحة، وإن لم تكن مشرّعة. فقد تقتضي المواجهة الانتخابية الشرسة بين المعارضة وأهل الحكم، والخوف على «الأكثرية الحالية» تضامناً بين اهل السلطة رغماً عن ارادة البعض. وتلك مسألة اخرى ستظهر مؤشراتها لاحقاً، ولن تشكّل في حال حصولها اي مفاجأة لأحد.