لا يتوقع من محكمة أنشئت خلافاً للدستور اللبناني أن تحترم ما ورد فيه من ضمانات لحرية التعبير وحرية الصحافة. لكن أن تتجاوز هذه المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسة فأمرٌ مستغرَب. فالمحكمة الخاصة اختلقت اختصاصاً قضائياً خاصاً بها لمحاكمة أشخاص ومؤسسات بحجة أنهم قاموا بتحقيرها. وفرضت مبالغ مالية بالعملة الأجنبية على مواطنين لبنانيين ومؤسسات لبنانية لأنهم نشروا معلومات وعبّروا عن آرائهم وانتقدوا أداءها. فبدل أن يردّ مكتب العلاقات العامة والتواصل في المحكمة (الذي يتقاضى الموظفون فيه عشرات آلاف الدولارات شهرياً) على تلفزيون «الجديد» وجريدة «الأخبار» بالمثل لتوضيح وجهة نظر المحكمة، قررّ قضاة لبنانيون وأجانب من لاهاي إرسال قوى مسلحة إلى مكاتب وسائل الإعلام لترهيبها وتهديدها بحجة إبلاغها مذكّرات قضائية.
لكل إنسان حق في حرية التعبير، بحسب ما جاء في الدستور وفي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. في نصّ المادة 19 منه أنّ الحق في حرية التعبير يشمل الحرية «في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها» (الفقرة الثانية). وصحيح أن الفقرة الثالثة تضع ضوابط على حرية التعبير مبنيّة على واجب «احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم» وواجب «حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة»، غير أنها تحدّد بشكل واضح لا يحتمل النقاش بأن تلك الضوابط يجب أن «تكون محددة بنص القانون».
أما المحكمة الخاصّة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين فقد قرّرت ملاحقة ومحاكمة ومعاقبة صحافيين ومؤسسات إعلامية بسبب ما نشروه وبثوه من دون الاستناد إلى «نص القانون»، بل بموجب قاعدة من قواعد الإجراءات والإثبات الخاصة بها (القاعدة 66 مكرر) والتي كان القضاة أنفسهم قد وضعوها. المشكلة تكمن في أن قضاة المحكمة الخاصة عدّوا أنفسهم مشرعين وبرلمانيين وتجاوزوا مبدأ أساسياً وبديهياً يقتضي فصل المشرّع عن القاضي.
واستفادت المحكمة الدولية من تقاعس السلطات والمؤسّسات اللبنانية لناحية قبول الحكومة والقضاء تجاوز قانون المطبوعات، ولناحية تغطية نقابة المحامين لاعتداء أحد أعضائها على حقوق المتهم من خلال قبوله أن يكون مفروضاً على طرف، وهو أمر لم توافق عليه شخصيات حقوقية بارزة في العالم. كما أن السلطات اللبنانية لم تتدخل في مناقشة الموازنة الخاصة بعمل المحكمة في ملف المطبوعات، وهي التي لا تقدم أيّ عون للصحافيين في حالة كهذه، بما في ذلك الضغط على نقابات مهنية معنية لعدم التدخل في الأمر.
مطاردة «الجديد»
في آب 2012، بثّ تلفزيون «الجديد» خمسة تقارير طرح فيها صحافيون أسئلة على أشخاص كانت قد قابلتهم لجنة التحقيق الدولية خلال فترة عملها في لبنان (2005 – 2009). وفي 10 آب 2012، أصدر قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الدولية «قراراً سرياً» أمر فيه «الجديد» بعدم نشر معلومات عن الأشخاص الذين قابلهم الصحافيون، وعدّ القاضي تلك المعلومات «سرّية»، كما أمر بإزالة «أي معلومات من هذا النوع» من موقعها الإلكتروني…
وشكلت أوامر القاضي الأجنبي سابقة في لبنان المعروف بهامش مقبول من الحرية الإعلامية مقارنة بباقي دول المنطقة. وتبيّن أن المحكمة الخاصة باغتيال الحريري التي لم تتجرأ على المسّ بوسائل إعلام أوروبية وكندية وفرنسية وأميركية كانت قد نشرت معلومات سرية تتعلق بتحقيقات المحكمة الخاصة بلبنان، تصدر «أوامر» صارمة بكمّ أفواه إعلاميين لبنانيين. هي سياسة الكيل بمكيالين إذاً وعودة إلى التمييز العنصري والنهج الاستعماري. والمطلوب رضوخ الإعلام لمشيئة الرجل الأبيض.
في 31 كانون الثاني 2014، وُجّهت إلى كلّ من نائبة رئيس مجلس إدارة «الجديد» كرمى الخياط وشركة «الجديد» تهمة «تحقير المحكمة» بسبب عرقلتهما المزعومة لسير العدالة. وفي إجراء غريب عن النظام القضائي في لبنان، كانت المحكمة قد عيّنت «صديقاً» (amicus curiae) للتحقيق في الجرم المزعوم، ولأداء دور الادعاء. وبدأت المحاكمة في 16 نيسان 2015 سعى خلالها «صديق» المحكمة إلى إقناع القضاة بسجن الخياط وتغريم «الجديد» بمبالغ ضخمة.
هل كان الهدف ردع وسائل الإعلام التي توجّه انتقادات؟ وألم تتصرّف المحكمة كآلية قمعية لا تحتمل الرأي الآخر؟
وفي 18 أيلول 2015 بُرِّئت شركة «الجديد»، فيما أُدينت الخياط وحكم عليها بعقوبة تسديد غرامة قدرها 10 آلاف يورو. فاستأنفت الخياط الحكم وفسخته لاحقاً محكمة الاستئناف (في 8 آذار 2016) وتبين أن كلّ التهم لم تكن ترتكز إلى أيّ دليل قضائي.
ويبقى السؤال: لماذا وُجِّهت إلى «الجديد» والخياط تهم قضائية بتحقير المحكمة بينما لم تكن هناك أية إشارات جدّية تدل إلى ذلك منذ البداية؟ وهل كان الهدف ردع وسائل الإعلام التي توجه انتقادات إلى المحكمة؟ ألم تتصرف المحكمة كآلية قمعية استبدادية لا تحتمل الرأي الآخر؟ وأهم من كلّ ذلك، أليست سهولة توفير التمويل من خزينة الدولة اللبنانية من دون رقيب أو حسيب، هي ما يتيح لها التصرّف كما يحلو لها من دون التنبّه إلى نتائج ما تقوم به؟ فهل هناك في الدولة اللبنانية اليوم من يسأل عن كلفة ملاحقة وسائل إعلام وإعلاميين لبنانيين في لاهاي؟ وما هو المردود الفعلي للدولة والشعب اللبناني؟ وما هو المردود الفعلي للعدالة؟
التصويب على «الأخبار»
في كانون الثاني 2013، نشرت «الأخبار» مقالين تضمّنا معلومات عن شهود سريين مزعومين كانت قد قابلتهم لجنة التحقيق الدولية. وكانت قد نشرت قبل ذلك (واستمرت بالنشر بعد ذلك) عدداً كبيراً من المقالات التي انتقدت بشكل لاذع وموثّق ودقيق قيام هذه المحكمة وآلية تعيين القضاة والموظفين فيها وآلية تمويلها وأسلوب عمل المحققين في مكتب المدعي العام فيها، الذين كانوا مثلاً قد اقتحموا عيادة طبيبة نسائية للاطلاع على الملفات الطبية الخاصة بالمريضات في تجاوز صارخ لأبسط المعايير الأخلاقية والقانونية والإنسانية، كما قاموا بعدة أعمال معيبة ومذلّة للبنانيين أثناء عملهم وتجولهم في لبنان.
وفي 31 كانون الثاني 2014، وجهت تهمة «تحقير المحكمة» إلى كلّ من رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير «الأخبار» إبراهيم الأمين وشركة «أخبار بيروت». وادعت المحكمة أن «الأخبار» عرقلت سير العدالة من خلال نشر معلومات عن شهود سريين مزعومين، «مقوّضة بذلك ثقة الرأي العام بقدرة المحكمة على حماية سرية المعلومات المتعلقة بالشهود». لكن أليس توفر هذه المعلومات على شبكة الإنترنت قبل نشرها في «الأخبار» هو بحدّ ذاته ما «يقوّض ثقة الرأي العام بقدرة المحكمة على حماية سرية المعلومات المتعلقة بالشهود»؟ فلماذا قرّرت المحكمة ملاحقة «الأخبار» والأمين بدل أن تبحث عن مسرّب تلك المعلومات من داخل لجنة التحقيق الدولية وتحاكمه؟ ألا يدل إصرار المحكمة على محاكمة جريدة وإعلاميين إلى نية المحكمة كمّ أفواه الإعلام الحرّ وقمع الصحافيين حتى تكتمل مسرحيتها المشبوهة في لبنان؟
مثل الأمين أمام المحكمة في 29 أيار 2014، طالباً الإدلاء ببيان حول الملاحقة، غير أن القاضي لم يسمح له بذلك وقاطعه عدة مرات، ما دفع الصحافي إلى مغادرة الجلسة. وقررت «الأخبار» عدم التعاون مع المحكمة التي لم تحتمل سماع مجرّد بيان صادر عنها حتى نهايته. ولكن في خطوة تجاوزت فيها المحكمة أبسط الحقوق القانونية، أمر القاضي بفرض محام على الأمين و«الأخبار» (من دون موافقتهما). ولا عجب في ذلك، إذ إن هذه المحكمة كان نظامها قد أتاح لها محاكمة أشخاص من دون حضورهم منذ قبل انتهاء التحقيق. هي محكمة النهج الدولي الاستعماري الغربي الذي يقرّر إدانة الآخرين من دون السماح لهم بالدفاع عن أنفسهم إلا بواسطة من يختاره هو للدفاع.
أدانت المحكمة «الأخبار» والأمين في 15 تموز 2016. وحُكم على الأمين بدفع غرامة قدرها 20 ألف يورو، وعلى شركة أخبار بيروت ش.م.ل. بدفع غرامة قدرها 6 آلاف يورو. وأمر القاضي بدفع الغرامتين في مهلة أقصاها 30 أيلول 2016.
ونشرت المحكمة لاحقاً على موقعها الإلكتروني أن «الغرامة البالغة 20 ألف يورو أودعت بكاملها لدى قلم المحكمة في 14 آب 2018». وتبيّن لاحقاً أن القاضي كان قد أصدر مذكرة توقيف سرّية بحق الزميل الأمين.
«أما الغرامة البالغة 6000 يورو المفروضة على شركة أخبار بيروت ش.م.ل. فلم تُدفع بعد. وما زالت السلطات اللبنانية ملزمة بتنفيذ الحكم».
لبنان يدفع 100 مليون دولار لقمع صحافته
«المطبعة والصحافة والمكتبة ودار النشر والتوزيع حرّة ولا تقيد هذه الحرية إلا في نطاق القوانين العامة وأحكام هذا القانون» (المادة 1 من قانون المطبوعات 14/9/1962)، وبالتالي فإنّ حرية الصحافة والنشر لا يمكن أن تُقيّد بموجب قواعد الإجراءات والإثبات الخاصة بالمحكمة الدولية. فهل يمكن عدّ كل ما صدر عن المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري من قرارات وأحكام بحق الصحافة والإعلام باطلاً وفاقداً لأيّ قيمة قانونية؟ علماً أن النشر والبث المشكو منه في لاهاي قد تمّ ضمن الأراضي اللبنانية ويُفترض أن يكون للسلطات القضائية الاختصاص للنظر فيه.
لكن يبدو أن الأمر رهن القرار الدولي وقد تخلت الدولة اللبنانية عن سيادتها من خلال رضوخها لمحكمة فرضها مجلس الأمن الدولي عليها بقوة التهديد بالعقوبات واللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
لكن من حق اللبنانيين أن يعلموا بأن محاكمة جريدة «الأخبار» وتلفزيون «الجديد» والتي دامت نحو ثلاث سنوات قد تكون كلفتها قد زادت عن 200 مليون دولار أميركي سدّد نصفها من خزينة الدولة اللبنانية. أي إن اللبنانيين دفعوا نحو 100 مليون دولار لكم أفواه الصحافة وترهيب الإعلاميين، مقابل ماذا؟ مقابل لا شيء. ولا حتى شيء يمكن أن يرضي ذوي ضحايا جريمة 14 شباط 2005 أو الشهود المزعومين أنفسهم أو أي شخص أو جهة أخرى… ويتردد على ألسنة كل من كان متحمّساً لهذه المحكمة كلام يدل على خيبة الأمل.