كل ما قامت به المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين خلال عشر سنوات خلت يُصبح باطلاً إذا اعترض أيّ من المدانين علناً على الحكم بعد صدوره، وتعاد المحاكمة من نقطة الصفر حضورياً. هكذا يتيح نظام المحكمة هدر مليار دولار، ومنها نحو 500 مليون دولار من أموال اللبنانيين سددت بسبب إصرار واضعي نظام المحكمة على السير بالمحاكمات الغيابية وبسبب تساهل جميع القوى السياسية مع تحويل الأموال الى المحكمة الدولية سنوياً منذ عشر سنوات حتى اليوم، ووضع بند تمويل هذا الهدر الفاضح في مشروع الموازنة الحالي
خلصت غرفة البداية في المحكمة الخاصة بلبنان إلى أنه «تعذّر على» المتّهمين تعيين محامين بسبب عدم تمكن المحكمة من الاتصال بهم. فقرّرت المحكمة تكليف رئيس مكتب الدفاع المحامي فرنسوا رو انتداب محامين للدفاع عن حقوق المتّهمين ومصالحهم. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنه «في حال الحكم بالإدانة غيابياً، يحقّ للمتهم الذي لم يعيّن محامي دفاع من اختياره أن يطلب إعادة محاكمته حضورياً أمام المحكمة الخاصة، ما لم يقبل بالحكم الصادر بحقه».
إن ورود ذلك في النظام الأساسي للمحكمة الخاصة بلبنان يشير إلى المعضلة الأبرز التي يواجهها المحامون، حيث تتعذّر معرفتهم بموقف المتهمين من الاستراتيجية التي اختاروا انتهاجها في الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم.
إن منح نظام المحكمة الدولية المدان غيابياً الحق في إعادة المحاكمة في النظام الأساسي للمحكمة يدلّ إلى عدم اكتمال الشروط العادلة في المحاكمات الغيابية. حيث إن أحد أهم تلك الشروط هو موافقة المتّهم قيد المحاكمة على المنهجيّة التي اختار اعتمادها الأشخاص الذين كُلّفوا الدفاع عنه.
لا معرفة مسبقة لأيٍّ من المحامين الذين كُلفوا الدفاع عن المتهمين الخمسة بهم. ولا معرفة مسبقة بالمتهمين لأيٍّ من المحامين المساعدين أو أعضاء فرق الدفاع. ولا وجود لأيّ قناة اتّصال مباشرة أو غير مباشرة بين المتهمين والمحامين. ولم يسعَ أيٌّ من الطرفين إلى ذلك اصلاً. فالمحامون لا يسعون إلى التواصل مع المتّهمين بسبب التزامهم بالضوابط القانونية للمحاكمات الغيابية، أمّا المتهمون فيلتزمون، على ما يبدو، بالموقف الذي عبّر عنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بوضوح لجهة عدم التعاون مع المحكمة الخاصة بلبنان على أساس أنها جزء من الآليات المستخدمة دولياً للاعتداء على حزب الله.
لكن إضافة إلى الجانب المبدئي الحقوقي في قضية تعيين محامين عن أشخاص متهمين من دون معرفتهم أو موافقتهم على ذلك، لا بدّ من التطرّق إلى أربع عقبات عملية أساسية تعترض الدفاع في هذا الإطار.
أولاً، إن عدم تعرّف المحامين إلى الأشخاص الذين كُلفوا الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم يحرمهم من معرفة هويتهم وشخصيتهم ومواقفهم بشأن مختلف الأمور المرتبطة بشكل مباشر وغير مباشر بالتحقيق وبضحايا الجريمة وبظروف وقوعها. فلا يمكن للمحامي مثلاً أن يسأل المتهم عن صحة الادعاءات الواردة في قرار الاتهام لناحية المكان والزمان والأفعال المذكورة. ولا يمكنه أن يستوضح أسباب بعض التصرفات المزعومة ولا أن يستطلع ما كان يدور في ذهن المتهم وما كانت مواقفه من فلان أو من حادثة محدّدة أو شخص معيّن أو فئة من الناس. ولا يمكن أن يتعرّف المحامي إلى شخصية المتهم ولا أن يعلم توجهاته السياسية والثقافية والاجتماعية والوجدانية إلخ…
ثانياً، إن عدم تواصل المتهمين بالمدافعين عنهم يحرمهم من تحديد طبيعة العلاقة التي يحتمل وجودها بين المتهمين أنفسهم وبين كل منهم وضحايا الجريمة التي اتّهموا باقترافها. ولا بدّ من الإشارة إلى أن اتهام الأشخاص الذين يحاكمون غيابياً بالضلوع في «مؤامرة هدفها ارتكاب عمل إرهابي» (بحق ثلاثة من أصل أربعة متهمين) يستدعي التعرف بدقة إلى طبيعة العلاقة المزعومة التي تربط المتهمين ببعضهم، وهو أمر شبه مستحيل في ظلّ غياب الأشخاص المتّهمين. أما عن عضوية المتّهمين في حزب الله فلا يمكن حسمها إلا بعد تقديم فريق الادّعاء القرائن التي تثبتها وهو ما لم يحصل.
إن منح نظام المحكمة الدولية المدان غيابياً الحق في إعادة المحاكمة يُثبت عدم اكتمال الشروط العادلة في المحاكمات الغيابية
ثالثاً، قد يستدعي المدعي العام الدولي عدداً من الشهود الذين يتناولون أفعال المتهمين المزعومة ومكانها وزمانها وأسبابها. وبينما يمكن للمحامين أثناء المحاكمات الحضورية الاستعانة بأقوال المتهم وما قد يقدّمه من إثبات يؤكد صحتها، للتشكيك في أقوال شهود الادعاء، يُحرم المحامون في المحكمة الخاصة بلبنان من ذلك بسبب غيابية المحاكمات.
رابعاً، إن المحامين الخمسة ومساعديهم وجميع أعضاء فرق الدفاع لا ينتمون إلى البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية للمتهمين. حيث إن معظم هؤلاء من جنسيات أجنبية: كندا وفرنسا وبريطانيا وسويسرا والولايات المتحدة وألمانيا… ولا يعرفون الكثير عن لبنان وعن المنطقة ولا يتقنون اللغة العربية. أمّا العرب (تونس ومصر) واللبنانيون فلا تربط أياً منهم علاقة بالبيئة السياسية والاجتماعية التي يزعم المدّعي العام أن المتهمين الخمسة ينتمون إليها.
حجج أمنية غامضة
إن المعلومات التي يُتاح للمحامي المدافع عن المتهم حضورياً جمعها تتفوّق على المعلومات المتاحة لمحامي الدفاع غيابياً من حيث الكمية والنوعية. ففي المحاكمات الحضورية يسدد المتهم كلفة الدفاع ويحدّد ميزانية الخبراء التقنيين ويغطي نفقات الانتقال وجمع المستندات والوثائق، وكل ما يمكن أن يساهم في تثبيت براءته. أما في المحكمة الخاصة بلبنان فيحدد سقف نفقات صندوق المعونة القضائية ويخضع كل خبير ومساعد قضائي ومستشار دفاع لموافقة مكتب الدفاع الذي يخضع بدوره لرئاسة المحكمة. كما يخضع تكليف الدفاع أيّ خبير أو مساعد لتدقيق في «الخلفية الأمنية» يجريه مكتب الأمن التابع لقلم المحكمة. للوهلة الأولى يبدو ذلك الشرط معقولاً في أول محكمة دولية تنظر في قضايا الإرهاب، لكن المشكلة تكمن في الآتي:
أولاً، لا توجد منهجية للتدقيق في «الخلفية الأمنية» يمكن أن يطلع على تفاصيلها المحامون والقيمون على مكتب الدفاع، حيث إنه في كل مرّة جاء فيها تصنيف خبير للدفاع سلبياً لم يزوّد المحامي الذي طلب التعاقد معه بأي معلومات أو تفاصيل تبرّر نتيجة ذلك التصنيف.
ثانياً، قرّر الأمين العام للأمم المتحدة تعيين أحد المدّعين العامين في المحكمة الخاصة بلبنان داريل مونديس، رئيساً للقلم (وهو منصب بمثابة مدير المحكمة المسؤول عن المحاضر والأمن والأمور الإجرائية) خلَفاً لهيرمان فون هابيل الذي استقال وانتقل للعمل في المحكمة الجنائية الدولية. يطرح ذلك شكوكاً جدية بشأن الفصل بين مصالح أحد الأطراف (الادّعاء) وحيادية الخدمات الإدارية والأمنية لقلم المحكمة.
ثالثاً، إن التدقيق في «الخلفية الأمنية» لأشخاص مقيمين في لبنان يقتضي جمع معلومات عنهم من الأجهزة الأمنية والاستخبارية المحلية. لكن بينما يرفض فريق أساسي في لبنان ينتمي إليه عدد لا يُستهان به من المسؤولين في الدولة وفي أجهزتها الأمنية والاستخبارية، التعاون مع المحكمة الخاصة بلبنان، فإن عملية التدقيق في «الخلفية الأمنية» تكون ناقصة لا بل إنها تخضع لاعتبارات سياسية ولا تقتصر على الشروط الأمنية البحتة كما يفترض.