IMLebanon

المواصفات… إهانة للرئاسة

قد لا يكون الهدف من وضع مواصفات مَن سيتبوَّأ منصب رئاسة الجمهورية الإساءةَ إلى موقع الرئاسة الأولى ودورها على المستوى الوطني، بقدر ما هو بحثٌ عن مساحة حوار في ملف من دون أفق.

لا حُكم على النيّات التي قد تكون إيجابية وترمي إلى إطالة البحث في الملف الرئاسي تبريراً لانعقاد هيئة الحوار وفي ظلّ إصرار فريق 14 آذار على حصر النقاش في هذا الملف، ولكنّ خطورة تحديد مواصفات الرئيس تتجاوز ما أكّد عليه الرئيس فؤاد السنيورة باسم 14 آذار لجهة «رفض تكبيل الرئيس بأيّ شروط مسبقة»، إلى ما يشكّل إساءةً لموقع الرئاسة الأولى والموارنة في لبنان، وذلك انطلاقاً من الآتي:

أوّلاً، إنتخاب رئيس الجمهورية لا يخضع لمعايير انتخاب ملكات الجمال، بل هو استحقاق وطنيّ بامتياز، وما من أحد في لبنان يحق له المزايدة على الآخر بوطنيته ولبنانيته.

ثانياً، الرئيس العتيد يتقيّد فقط بأحكام الدستور الذي يسهر على احترامه و»المحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه»، وبحلفه أمام البرلمان يمينَ الإخلاص للأمّة والدستور.

ثالثاً، من المعيب تحديد دور الرئيس الماروني الذي يمثِّل أرفعَ منصب سياسي للمسيحيين في لبنان وكلّ العالم العربي، ولكن ليس فقط من هذه الزاوية، بل الأهم لأنّ الموارنة كانوا في طليعة المساهمين في صناعة الفكرة اللبنانية بأبعادها الميثاقية والتعايشية المرتكزة على الحرّية، وبالتالي هل يُعقل عشية المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير الذي انتزعه الموارنة مساحةَ حرّية في هذا الشرق أن يأتي مَن يحدّد لهم دورَهم، فيما كانوا هُم أوّلَ من صاغ دور لبنان ووظيفته؟

رابعاً، ما ينطبق على الموارنة في الرئاسة الأولى ينسحب بطبيعة الحال على الشيعة في الرئاسة الثانية والسُنّة في الرئاسة الثالثة، وبالتالي هل يَقبل السُنّة والشيعة بأن يأتي من يحدّد لهما ما يُفترض أو لا يُفترض القيام به؟

خامساً، إنّ مجرّد التشكيك بوطنية أيّ مذهب هو نسفٌ لفكرة التعايش بين اللبنانيين، على رغم أنّ لهذا التعايش قواعد لم يتمّ احترامها، ويا للأسف، وفي طليعتها أنّه على كلّ طائفة أن تتصرّف من منطلق التقاطع مع الطوائف الأخرى حول ثوابت وطنية مشترَكة، خصوصاً بعد أن أثبتَت التجربة أنّ الخروج عن المشترك يهزّ الاستقرار ويضرب الميثاق ويشلّ الدولة ويعطّل البلد…

سادساً، الرئيس العتيد ليس مخلوقاً فضائياً آتياً من كوكب آخر يجهل البلد وأهلَه وتركيبته وتوازناته، فالكلّ في لبنان على معرفة وثيقة بالكلّ، تاريخاً وسلوكاً وأداءً، وبالتالي انتخابُ أيّ رئيس يخضع لتوازنات اللحظة السياسية، بعيداً عن مواصفات تشكّل إهانةً لأيّ شخصية مارونية لا تنتظر من أحد أن يحدّد لها ما يجب أو لا يجب أن تقوم به في ممارستها لدورها الذي تستلهم فيه الدستورَ فقط لا غير.

سابعاً، لا يجوز الخلط بين الثوابت الوطنية التي على كلّ المؤسسات الدستورية والقوى السياسية الالتزام بها، وبين حصرِ المواصفات برئيس الجمهورية وكأنّه قاصرٌ أو مشكوك بولائه ولبنانيته ووطنيته وسلوكه.

ثامناً، لا يجوز الخلط أيضاً بين أن يكون الرئيس ممثّلاً لبيئته ومقبولاً من البيئات الأخرى، وبين إلزامه بعناوين سياسية وحزبية وفئوية. والتمثيل يكون من خلال وصول شخصية ممثلة أو تحظى بتأييد القوى الممثلة.

تاسعاً، الأزمة اللبنانية ناتجة من عدم التقيُّد بالدستور، بدءاً من تمسّك «حزب الله» بسلاحه وصولاً إلى تمسّك العماد ميشال عون بترشيحه ورفضه والحزب توفيرَ النصاب لانتخاب رئيس جديد، وبالتالي من لا يتقيَّد بالدستور لن يتقيَّد بمواصفات من هنا وهناك.

عاشراً، ما كان ينقص بعد، أن يُطلب من الرئيس العتيد أن يقدّم تقريراً بلقاءاته وما ينوي اتّخاذه من مواقف للحصول على موافقة مسبقة، وأن تقوم هيئة الحوار بدور الوصيّ على الرئيس، أو أن يُعاد الاعتبار للّجنة الفاحصة في الزمن السوري.

فأكبر إساءة لِمن خَطَّ بالأحرف الأولى دستورَ هذا البلد وميثاقه ودوره وهويته ورسالته إعطاؤه الدروس بالوطنية والمصلحة اللبنانية.

وتبقى ملاحظة أخيرة برسم «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وكلّ اللبنانيين في ظلّ الحديث عمّا يسمّى بالمواصفات، حيث أوردت مجلة «المسيرة» في عددها الأخير أنّ رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد تساءَل في مقابلة أجراها معه الكاتب نيقولا بلانفورد في كانون الأوّل من العام 2004 ووَثّقها في كتابه killing Mr Lebanon الذي يتحدّث عن اغتيال الشهيد رفيق الحريري وتأثيره على الشرق الأوسط، تساءل «ما إذا كان يجب أن تبقى رئاسة الجمهورية بيدِ الموارنة؟»

وخطورةُ هذا الكلام أنّه قيل في نهاية العام 2004 وليس في أواخر الثمانينات ليتمّ التذرع بالحرب وانقساماتها، بل قيل في المرحلة التي استعاد فيها الموارنة دورَهم السياسي على اثر تغييبهم القسري من قبَل النظام السوري، وذلك مع نداء مجلس المطارنة الموارنة الذي أطلقَه البطريرك السابق نصرالله صفير في أيلول من العام 2000، وإنشاء لقاء «قرنة شهوان» وعودة الحيوية السياسية وصدور القرار 1559 ولقاءات البريستول، وبالتالي جاء موقف رعد ليقول للموارنة إمّا تلتزم الرئاسة الأولى بشروط «حزب الله» أو لا رئاسة.

واللافت أنّ كلامه جاء بعد التمديد للرئيس إميل لحود وصدور القرار 1559 وقبل شهرين على اغتيال الشهيد رفيق الحريري الذي كان رفع شعار ضرورة وقف العدّ بين اللبنانيين. وإنْ دلَّ كلام رعد على شيء، فعلى رؤية الحزب الأيديولوجية الحقيقية للبنان، والتي لم تتبدّل منذ قيامه إلى اليوم، فيما التبدّل الوحيد هو في الشكل لا الجوهر.