إذاً، “النسبية” بالشكل الذي اعتُمد في قانون الانتخاب وجرى الاستحقاق على أساسه، وبالشكل الذي مكّن كل طرف من الاحتفال بالنصر الانتخابي، لم تفتح السبيل لتشكيل سهل وفي مدى زمني معقول للحكومة العتيدة. هذه النسبية التي جرى التداعي أيضاً لاعتمادها معياراً لتشكيل الحكومة، فيكون لكل كتلة نيابية رصيدها المناسب لحجمها من المقاعد الوزارية، في مزيد من الابتعاد عن الديموقراطية البرلمانية المُقرّ بها في الدستور اللبناني، والقائم على الفصل بين السلطات، وليس تحويل البرلمان الى حكومة كبيرة، والحكومة الى برلمان مصغّر.
لا شك انه أمر سيئ للغاية ان لا يعرف البلد طريقه الى التشكيل الحكومي في أمد معقول. ليس سيئاً أبداً مع هذا تبدّد الأوهام حول “النسبية”.
النسبية الانتخابية، على الطريقة اللبنانية، تجعل كل طرف يعتقد بأنه الرابح. النسبية الحكومية، على الطريقة التي أُريدَ اعتمادها، وعلى اعتبار انها لعبة حساب بسيطة وسهلة، زادت تمسّك كل طرف بمرآته الشخصية، والتفت على المنصوص عنه دستورياً حول مركزية فعل تشكيل الحكومة لدى رئيس الحكومة المكلّف، وما عجّلت بالتشكيل، بل يبدو ان كل بادرة ايجابية بصدده تُطرح ثم تُجمّد حول نفس النقطة.
من السذاجة حصر استعصاء التشكيل في الوقت الحالي بالسياق الداخلي. من السذاجة أكثر تهميش الإطار الداخلي البحت لهذا الاستعصاء أو إهماله. يقوم هذا الاطار على المفارقة التالية: هناك رأي اعتُمد، ويقول باتّباع قواعد غير منصوص عنها دستورياً، كـ”شورت كات”، كطريق مختصرة، فتأتي النتيجة بشكل عكسي تماماً، كمن يهرب من زحمة الاوتوستراد الدولي فيمضي يومه في زحمة زقاق.
طمأنة الذات بأنه سبق ان وقع البلد في فترات تعطيل لإحدى مؤسساته الدستورية لأشهر طويلة، أو بالسنوات، ثم خرج من “التجربة” معافى، أو أقلّه من دون مضاعفات جسيمة، هي أكثر ما لا يمكن الاطمئنان إليه. صحيح، الامور يمكن في اي لحظة ان تنقلب، في ظل هذه الهشاشة للنظام السياسي، وهذه الهشاشة للاوضاع الاقليمية، بل للعصر كله، ويجري الخروج باتفاق لا يعود مفهوماً بعده على ماذا كان الخلاف تحديداً. هذا ما تعوّدنا عليه عشرات المرات، وهذا ما سيظل متاحاً حتى آخر لحظة هذه المرة ايضاً. لكن، من مرة الى مرة هناك حالة تلف تتمدّد وتتعمّق، وحالة لامبالاة اهلية تتّضح أكثر فأكثر. ليس سخطاً، إنما لامبالاة. واللامبالاة أخطر. السخط يمكنه ان يستدعي السخط المضاد، اللامبالاة عدواها أكبر وأوسع، خاصة اذا اشتدّ حالها وتحوّلت الى حالة مزمنة، حالة انشقاق مجتمعي، أو انسحاب مجتمعي من السياسة، أو حصر لها في اطار الانفعالات السلبية المشتتة. يزيد منها ترافق التضعضع المؤسساتي العام مع الخشونة في التعاطي مع مسألة الحريات: هذا ليس فأل خير.
يأتي كل هذا على خلفية لا يمكن إغفالها: اختلاف مصائر 8 و14 آذار. صحيح ان هذه الثنائية لم تعد قائمة كما في وقت سابق، ولا يمكن الركون اليها لتفسير ازمة النظام السياسي وتدهور الحياة السياسية، لكن 8 آذار التي لم تنوجد اساساً كإطار عمل جبهوي منهجي وإنما كمعادلة، معادلة وراثة “حزب الله” للوصاية السورية، أو السعي لأجل ذلك، هذه المعادلة لم تفكك. الاختلافات ضمن 8 آذار تتحرك في كنف هذه المعادلة. أما تخلّع 14 آذار فأخذ منحى آخر. بعكس خصمها، كانت 14 آذار إطاراً للعمل الجبهوي المتعدّد، احزاباً وشخصيات. يجمع بين المتحدّرين منها اليوم تحسّسهم بأن طيف 8 آذار يخرج الى الواقع السياسي مجدداً، بشكل أو بآخر، لكن هذا التحسّس وحده لا يمكن ان يبدّل المعطيات. الحاجة الى تفاهم جديد، بين المتحدّرين من 14 آذار أولاً، لكن هذا كي يحصل بجدّ ينبغي ان يتخطّى فرعية التشكيل الحكومي.