طوال العقود المنصرمة، كان الاضطهاد الذي يعاني منه الكرد في الدول الأربع التي تتقاسم أراضي وأقوام كردستان هو اضطهاد تمارسه قومية لقومية أخرى، وبحجّة أنّ الدولة الوطنية في شرقنا هذا مركزية تكون أو لا تكون، وأنّ الأكراد هم أتراك في غفلة عن تركيتهم، أو إيرانيون ينكرون إيرانيتهم، أو عرب يلزمهم التركيز على عروبتهم… وكان الانتشار الكردي خارج نطاق كردستان حجة على الأكراد بدلاً من أن تكون لهم، مثلما اتخذ القوميون العرب من كردية صلاح الدين الأيوبي حجة لفرض العروبة على الكرد، واعتبرهم الأتراك أتراكاً لأن عشائر منهم قاتلت الى جانب العثمانيين ضد الصفويين في تشالديران، هذه المعركة التي كان المحاربون الصفويون فيها من التركمان أساساً، في واحدة من المفارقات، اذا ما نظر اليها بالمقاييس الراهنة. كذلك المشاركة الكردية في حرب الاستقلال التركية صارت حجة ضد الأكراد، بدلاً من أن تكون مدخلاً لإقرار دولة ثنائية القومية.
بالتوازي، انتشر تركياً وايرانياً وعربياً التبرير التالي: الأكراد عاجزون تاريخياً عن إقامة كيان وطني له شكل دولة موحدة ومستقلة، إذاً ينبغي حرمانهم من النزعة القومية بأي شكل من الأشكال.
بوجه كل هذا التاريخ الحديث من الاضطهاد القومي، التركي والإيراني والعربي، للأكراد بحجة أنّهم أتراك وإيرانيون وعرب، جاءت «الدولة الإسلامية» لتقول لهم: أنا أقرّكم على جنسكم هذا، كأكراد، وكما للشيشاني في «داعش» أن يأمر الناس في الرقّة أو ريف حلب بالشيشانية، كذلك للكردي حرية الكتابة والنطق باللغة التي حاربها القوميّون في الدول الوطنية الأربع التي تتقاسم كردستان. وأكثر من هذا، يعطي مشروع «داعش» للأكراد حلماً بكسر الحدود التي تفصل الكردي عن أخيه الكردي، بما أنه قانون يلغي الحدود في ديار الاسلام، ويطبّق نوعاً من «شينغن إسلامية».
بعد ذلك تمضي «داعش» الى محاربة الأكراد. تحاربهم، تقول، ليس لأنهم أكراد، بل لأنهم يعصون أمر الخليفة، الخليفة الضامن للحقوق الثقافية لكل الأجناس الإسلامية، والمحطّم لصنم الوطنية والقومية سواء كان هذا الصنم إيرانياً أم تركياً أم عربياً أم كردياً.
عند هذه النقطة تترك «داعش» الكلام لغيرها. تتركه لـ«الدولة العميقة» في العراق والشام: الدولة البعثية. قنوات هذه الدولة العميقة تنقسم مذهبياً بين من يناهض «داعش» على طول الخط وبين من يحبّذ أن تدور دائرتها على أعدائه أولاً. لكن، عندما يتعلّق الأمر بجيب من جيوب الأكراد، يعود الإجماع الى هذه الدولة البعثية اللامرئية، العميقة. يسود التعجّب: علامَ يستبسل الكرد في الدفاع عن صنم وطنيتهم وقوميّتهم في حين لم يشعر العراقيون والسوريون بحساسية قومية في مواجهة «داعش»؟!
في الماضي القريب، كان يتم اضطهاد الكرد على أساس قومي، وبحجّة أنّ الكرد انفصاليّون عن قومية إيرانية أو تركية أو عربية لا مفرّ لهم منها، أو بحجّة أنّهم، علاوة على ذلك، أمميّون مفتنون (اليسار المتطرف التركي بفصائله كافة له نكهة كردية، و«جمهورية مهاباد» الكردية السوفياتية في إيران لها في الذاكرة الكردية فعل النوستالجيا). أما اليوم، فيجري تعويم الحرب الداعشية على الأكراد بحجّة أن الأكراد يعانون من نقص في الأممية! بما أن «داعش» أممية، والعرب، والوها أو حاربوها، تعاملوا معها بأممية، يفترض بالكرد التغافل عن قوميّتهم، والاستتابة الى الروح الأممية الضاربة بـ.. «المنطقة»!
لكن الكرد، بتحدّيهم القوميّ لـ«داعش»، يلفتون الى ما ليس أممياً في «داعش»، الى مزدوجة إثنية – مذهبية، تقاتل المخالف في المذهب حيناً، والمختلف في القوم حيناً آخر، وكانت الأممية الجهادية في أفغانستان وقعت سابقاً في مطب من هذا النوع، يوم آثرت الباشتون السنّة على الطاجيك والأوزبك السنّة.
في المقاومة الكردية ضد «داعش» اليوم ثمة ربيع جديد للفكرة القومية، ربيع يربطها بمبدأ كوني: حق تقرير المصير. وفي الهجوم «الداعشي» على الأكراد ثمة صورة بالنيغاتيف للفكرة القومية: الازدواجية الإثنية – المذهبية التي تتقاذفها الأهواء، مرة يتحرّك مركّبها الإثني أولاً، ومرة يتحرّك مركّبها المذهبي أوّلاً.
وإذا كان الأكراد يتمسّكون بالروح القومية في مواجهة «داعش»، فما يضيّعه العرب اليوم فرصة مشهدية لتعلّم القومية من الأكراد، كقضية حقوق ثقافية وحق تقرير مصير، بدلاً من استمرار تجرّع التعليم البعثي لها، وبدلاً من موقف عدمي عربي، يتنكر للفكرة القومية «هنا»، فيما يدافع عنها للأكراد «فقط».