IMLebanon

أمهات معهنّ الله… لا محكمة الله على الأرض

 

ضحايا المحاكم الشرعية والروحية

 

“الله يصطفل فيكم يللي عذبتوني وحرقتولي قلبي عَ ولادي يللي ما بتخافوا الله… يا الله… إذا هني عندهم واسطات فأنا إلي أنت يا رب السماوات والأرض. بحبكم كتير يا ماما يسرا ويعقوب الله يرضى عليكم”. بدون معرفة مكان طفليها يسرا ويعقوب، مرّ عيد الأم على فاطمة نظام بائساً. فاطمة معها “الله”، لكن “ما معها” محكمته على الأرض.

 

 

 

المحكمة الشرعية السنية هي التي سلبت فاطمة أولادها، بقرار تعسّفي “خطير” تفوق خطورته منح حضانة الطفلين (8 و9 سنوات) للأب، فالقرار حرم فاطمة حقها حتى بالمشاهدة ومعرفة مصير أبنائها، فمكّن الوالد سليم الرز من تجديد جوازات سفرهما وتسفيرهما من ألمانيا إلى أين ما شاء، من دون علم الوالدة وموافقتها، مخالفاً بذلك قرار الدولة الألمانية بتسفيرهما بموافقة أمهما، فيما عذر السفارة اللبنانية في ألمانيا كان “نحن نخضع للقوانين اللبنانية بما فيها قوانين الأحوال الشخصية التابعة حتى هذه اللحظة للطوائف في لبنان”.

 

 

 

3 أشهر مضت على عدم معرفة فاطمة شيئاً عن ولديها، وهي اليوم ترفع دعوى “خطف” بعد معرفتها بالصدفة بدخول الوالد إلى لبنان في رأس السنة الأخير، والوالد حتى اليوم متوارٍ عن الأنظار. وفيما تناشد فاطمة القضاء اللبناني ودار الفتوى “إيجاد أطفالي وتصحيح قرار المحكمة السنية الذي حرمني إياهما”، ها هي دانا (اسم مستعار)، ممنوعة منذ عشرة أعوام من الأمومة، لأنها لا تمتلك 8000 دولار، رسم تكاليف الطلاق من زوجها في أبرشية السريان الأرثوذكس، وممنوعة كذلك من الزواج ممن تحب والإنجاب مجدداً وتأسيس عائلة مسيحية طبيعية.

 

 

 

لكن الوضع المالي للمحاكم الشرعية والروحية، لا يشبه وضع “الرعية”. فعام 2018 كانت ميزانية المحاكم الدينية التي تمولها الدولة 41 مليون دولار، قرابة نصفها للمحاكم الجعفرية والسنية.

 

 

 

في مقال سابق، تناولنا معاناة الأم الشيعية لدى المحاكم الجعفرية. اليوم، نتناول خطر المحسوبيات والنفوذ وسلطة المال داخل المحاكم الدينية، و”تنييم” مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد في المجلس النيابي، لصالح ذلك النفوذ.

 

 

 

لا أعرف شيئاً عن أولادي

 

“بدي وصّل صوتي للرأي العام، للقضاء اللبناني، لدار الفتوى، أنا أم محروقة على أولادها، موجوعة، ما عم نام منيح، ما عم بقدر عيش حياتي الطبيعية متل كل إم، عم بحلم فيهن، أحلم بابنتي يسرا (9 سنوات) وبابني يعقوب (8 سنوات). خائفة عليهما، عم فكّر فيهن كل الوقت: عم ياكلوا؟ عم يشربوا؟ شو عم يعملوا؟ هني مناح؟… أو مش مناح؟” تقول فاطمة، مضيفة “أنا أم ما بتعرف شي عن ولادا من سنتين و4 شهور، بترجاكن تساعدوني، إذا مش كرمالي كرمالن”.

 

 

 

منذ أيام احتفل الأطفال بأمهاتهم، إلا أولاد فاطمة. تعليقاً على الذكرى تقول “أنا ما بعتبرو عيد الأم. عيد الأم بس يكونوا ولادي بحضني، شوف ولادي بخير، إسمع إبني وبنتي عم بيقولولي “يا ماما”.

 

 

 

مع كلمة “يا ماما”، يطغى بكاؤها على كلامها، وبصعوبة تكمل الحديث “صعبة… صعبة. حسبنا الله ونعم الوكيل… الله لا يوجع قلب إم. الله لا يدوقا لحدا، وحدة تخسر ضناها، روحها، هيدول قلبا. لو طلعت روحي كان أهون عليي والله”.

 

 

 

 

قرار “خطير” للمحكمة السنية

 

سافرت فاطمة وزوجها عام 2015 إلى ألمانيا، وعاشا فيها سنوات، إلى أن حصل الطلاق عام 2021.

 

في 2/2/2023 صدر عن المحكمة الجزائية في شتادة – ألمانيا، قرار قضى بالحضانة المشتركة. لكن بقيت فاطمة لا تستطيع رؤية أطفالها لعامين. “فطليقي الذي كان يعنفني قبل الزواج، نقل أساليب التعنيف لممارسة الترهيب على الأولاد، فحرّضهما عليّ وصارا يرفضان مشاهدتي، بعد توسل كبير مني، يكتفي بإرسال صور لهما عبر البريد الإلكتروني من دون أن أراهما أو أسمع صوتهما”.

 

 

نص قرار المحكمة الألمانية في حينه على أنه “سيستمر والدا الأطفال في ممارسة المسؤولية الأبوية المشتركة للطفلين يسرى ويعقوب، اللذين يقيمان في منزل الأب. يوضح والد الأطفال أنه لن يغادر ألمانيا مع الأطفال. وإذا كانت هناك حاجة لذلك، فلا يستفيد من ذلك صراحة إلا بعد التشاور مع والدة الأطفال”.

 

 

هذا النص الصريح الذي يمنع سليم الرز من تسفير أولاده من دون إذن من أمهما، كان حافزاً لديه ليلجأ لأساليب احتيالية، ولم يخطر في بال فاطمة أن تكون المحكمة السنية في طرابلس، هي من ستحرمها من أطفالها.

في 31/12/2024، وعن طريق الصدفة، عرفت عائلة فاطمة في طرابلس أن سليم الرز أتى مع امرأة مغربية والطفلين إلى لبنان عبر البحر، وتحديداً عبر مرفأ طرابلس. ذهبت على الفور عائلة فاطمة لرؤية الأطفال، فانهال الأب على العائلة بالشتائم والتهديد (كل تفاصيل التهديد مذكورة في دعوى تهديد بالقتل والقدح والذم وخطف أطفال لدى النيابة العامة الاستئنافية في الشمال)، وغادر بسيارة شحنها من ألمانيا إلى داخل الأراضي اللبنانية. وإلى اليوم، لا تعرف فاطمة وأهلها عن مصير يسرى ويعقوب شيئاً.

 

 

إضافة لشكوى خطف الأطفال، تقدم محامي فاطمة بدعوى حضانة مقدمة إلى المحكمة الشرعية في طرابلس. فماذا عن خطورة قرار المحكمة الشرعية؟ وكيف سهّل إخراج يسرى ويعقوب من ألمانيا حارماً أمهما رؤيتهما ومعرفة مصيرهما؟

 

 

السفارة اللبنانية في ألمانيا: نتبع قوانين الطوائف

 

تقرأ خطورة قرار المحكمة السنية، من رسالة لقنصل لبنان في ألمانيا عبر البريد لفاطمة. تقول القنصل فيها “قرار المحكمة الألماني أعطى الحضانة مشتركة لحضرتك وزوجك، وقرار المحكمة اللبناني اللي نحنا كسفارة منعتمد عليه بإجراءات الباسبور، حضرتك موافقة فيه على إنو زوجك يصدر جوازات سفر لولادك. بالتالي المشكلة عائلية”.

 

 

بدا كل شيء مخططاً له. ففاطمة لم توافق على قرار المحكمة السنية الغيابي بحقها، أو بمعنى أدق، تم إقراره من دون تبليغها واستدعائها وفق الأصول.

 

 

فالقرار صدر في تاريخ 10 كانون الثاني 2024، عن مجلس الشرع المنعقد في محكمة طرابلس الشرعية السنية برئاسة القاضي الشيخ سمير كمال الدين وحضور الكاتب الشيخ محمد الحموي، وقضى بـ”السماح بالاستحصال لولدي سليم الرز على جوازات سفر وتجديدها وإعطائه حجة شرعية ليعمل بها أمام كافة الدوائر والمراجع”، ليتم إصدار الجوازات بسرعة البرق، ويدخل سليم الرز لبنان بتاريخ 31/12/2024، أي خلال أقل من شهر.

 

 

في السياق، يعلق محامي فاطمة، عبد الرحمن العمري بالقول “أخطر ما في الورقة هو أنها صدرت من دون أن تعرف الأم بها ومن دون أن تتحاكم أصولاً”. والقرار “أخطر من منح الحضانة للوالد دون أن يتجاوزا 12 عاماً، فالحضانة تحفظ حق المشاهدة للأم، لكنّ هذا القرار حرمها حق مشاهدتهما ومعرفة مصيرهما”.

 

 

في السياق، يناشد العمري “القضاء اللبناني والمحكمة السنية والأجهزة الأمنية، التعاطي مع هذا الملف الإنساني بجدية أكثر، وفقاً لخطورة تهريب أطفال وإخفاء مصيرهم عن أمهم ورفض تبلغ دعوى الحضانة وحضور جلستها بتواطؤ مع عائلة الأب”.

 

 

 

ممنوعة من الزواج والإنجاب: المحكمة الروحية تبتزّنا بالأموال

 

للأم دانا قصة أخرى. فهي تحارَب بأمومتها حتى قبل الإنجاب. فبعد 10 سنوات على انفصالها عن زوجها، لا تستطيع، أن تمارس حقها بالطلاق، لأنها ببساطة لا تمتلك 8000 دولار، كلفة دعوى الطلاق وإجراءاتها في المحكمة الإبتدائية لأبرشية السريان الأرثوذكس لبيروت وطرابلس.

 

 

أكثر من 4 سنوات عاشتها في منزل أهلها مع ابنها، ولم يكن الأب يعترف بأي نفقة للولد، إلى أن ألزم المطران السابق، الوالد بتكاليف تعليم الصبي ومصروف النفقة.

 

 

اليوم، تغيّر المطران، مقررا عدم الأخذ بكل القرارات السابقة المأخوذة على أيام المطران جورج صليبا. وكل “استشارة يقابلها دفع أموال”. لذلك أنا بت مجبرة على قبول مبلغ 50 دولاراً فقط من زوجي المنفصلة عنه كنفقة لابني، لانني ببساطة لا أملك 300 دولار، وهي تكلفة دعوى النفقة في الأبرشية، وفق لائحة أسعار “بالدولار” زودنا بها المطران.

 

 

لكن المشكلة الأكبر من النفقة، والتي تحرم دانا “تأسيس عيلة مسيحية طبيعية” هي تكلفة الطلاق، أي قرابة 10 آلاف دولار. وتسأل “ألا يحق لي تأسيس حياة جديدة والإنجاب مجدداً؟”، متمنية أن يقر “قانون موحد للأحوال الشخصية، يمكننا كنساء من إعادة بناء حياة جديدة وحفظ حق أبنائنا”. وحتى إقرار هذا القانون، فإن حلم دانا وحبيبها بالإنجاب، معلق، بمباركة من الأبرشية.

 

 

 

المحاكم الدينية بمواجهة قانون الأحوال الشخصية

 

تظهر دراسة لـ”غربال” Gherbal Initiative، أن ميزانية المحاكم الدينية في لبنان لعام 2018، تساوي قرابة نصف ميزانية 3 وزارات في لبنان.

 

 

وبالتفصيل، فإن ميزانيات وزارة الصناعة، وزارة البيئة، ووزارة الشباب والرياضة مجتمعة، بلغت 25 مليون دولار عام 2018، بينما بلغت ميزانية المحاكم الدينية 41 مليون دولار في العام نفسه، وقرابة نصف الميزانية ذهبت للمحاكم الجعفرية والسنية.

 

 

والمحاكم الشرعية في لبنان تتبع لمجلس الوزراء، فتكون رسومها شبيهة برسوم المعاملات الرسمية، على عكس المحاكم الروحية المسيحية، التي لا ضوابط للتسعيرة فيها.

 

 

لكن الجامع الوحيد لهذه المحاكم هو أن قضاتها لا يعيّنون من الدولة، وغالبيتهم غير حائزة شهادات قانون بالضرورة، وتدخل الوساطة السياسية والمحسوبية والأموال إليها، ما يجعل “المصلحة الفضلى للطفل”، المعادلة الخاسرة الأكبر فيها.

 

 

العضو المؤسس في جمعية كفى، المحامية ليلى عواضة، تعلق بالقول “هناك 15 قانون أحوال شخصية لـ 18 طائفة في لبنان، ونطالب بإلغاء التمييز بين المرأة والرجل وبين المرأة والمرأة، فالظلم عام لكن بدرجات مختلفة، بحسب طائفة المرأة، سواء في قضايا الحضانة، النفقة أو الطلاق وغيرها، ونحن بحاجة لقانون أحوال شخصية موحد يجعل الطلاق والحضانة والنفقة، كلها خاضعة أمام محاكم مدنية”.

 

 

 

وعن مشروع قانون “كفى” الموقع من 9 نواب، تشرح أن روحية هذا القانون هي في اعتبار المرأة “كياناً مستقلا بذاته” بدءاً من فتح خانة مستقلة لها ولوقوعاتها في سجلات النفوس.

 

 

أما في مسألة الحضانة فتكون “المصلحة الفضلى للطفل”، لذلك تكون الحضانة مشتركة، ويعتبر منزل الأسرة للأولاد، والحاضن يبقى معهم في المنزل، وأولوية الحضانة للأم، طالما أن هذا لا يشكل ضرراً على الطفل، وفي الوقت عينه لا يمكن منع الأب من مشاهدة الأولاد متى شاء (إلا في ظروف خاصة تنظم فيها الرؤية كالتعرض للطليقة بضرر أو عنف…).

 

المحاكم الدينية VS دولة المواطنة

 

“هيدا القانون ما بيقطع إذا بدنا ننطر موافقة المحاكم الطائفية”، تقول عواضة، فلهذه المحاكم “مصالح ومزايا مادية وسلطوية، ومن الطبيعي أن تحارب أي قانون يحرمها هذه المزايا، فجميعنا يعلم حجم الأموال المهدورة في هذه المحاكم و”أموال” الضغط “اللي بتنكب فيها”.

 

 

وترى عواضة بأن الحل هو بإقرار القانون بعملية ديمقراطية عبر إقراره بالأكثرية، على غرار قانون العنف الأسري، وهو ما يتطلب دفعاً أكبر باتجاه جعل إقراره أولوية من قبل النواب الموقعين عليه.

 

 

علماً أنه وفق حسبة الكتل، فمشروع القانون ينال أكثرية نيابية “مسيحية”، ويرفضه “حزب الله” و”حركة أمل”، ونواب سنة من فلول تيار المستقبل، فيما يوافق عليه الحزب “الاشتراكي”، وإذا احتسبنا النواب التغييرين كذلك، فيمكن إقراره إن فقط وجدت النية باعتبار مصلحة الطفل والمرأة أولوية.

 

 

لكن مشروع القانون يعتبر كذلك إصلاحاً ومدخلاً لدولة المواطنة، ومن هنا محاربته. تقول عواضة “هو مطلب سياسي أكثر مما هو حقوقي ونسوي، لتكريسه المواطنة الحقيقية، فهو يحولنا من رعايا طوائف، إلى مواطنين ومواطنات، وهو لا يهدد الطوائف بل يهدد مصلحة هذه المحاكم المالية والسلطوية، كمؤسسات طائفية تعمل لمصالحها وليس لمصالح الأفراد فيها، فهمّها هو الإعفاء من الضرائب وتحصيل المكاسب والتغذّي على غريزة الأفراد تحت عنوان “ديننا بخطر”.

 

 

إلى حين إقرار قانون أحوال شخصية موحد، فإن أمومة فاطمة نظام في خطر، وأمومة دانا والمئات غيرها في لبنان مؤجلة.

 

 

فهل يتحرك القضاء اللبناني المدني لرفع الغبن عن فاطمة وأولادها إن لم تصحّح المحكمة السنية في طرابلس خطأها القاتل للأمومة؟