IMLebanon

استغاثات القادة الروحيين قبل الخراب الكامل

 

الجهات الممسكة بمفاتيح البلاد كافة وبكل تفاصيلها الإدارية والتشريعية والأمنية، تدرك تماما أنها فئة ميّزت نفسها وتعالت على هذا الشعب الممزق والمفتّت والمحكوم حاليا بلغة الفرض المسلح، متمسكة بشكل خاص بغطاء هام يؤمنه لها التيار الوطني الحر باعتباره جهة مسيحية تشكل لها درعا وقائيا تستغله في إضفاء البرقع الوطني الذي يغطيها ويحميها من تهمة الإستفراد والفرض وتغطية المآخذ الوطنية العديدة التي ترى في هذا التحكّم القائم، ثغرة أساسية تدخل من خلالها بقية المكونات اللبنانية في إطار اعتراض على ممارسات أدّت إلى إيصال هذا البلد إلى مرحلة الخراب والدمار والإفلاس المتجذر، الأمر الذي أفقدها كل الصفات الإيجابية والتميزيات الحياتية والإقتصادية والإجتماعية المتطورة التي كان هذا البلد المنكوب يتمتع بها ويتلألأ بأنوارها، بحيث شكّلت جزءا لا يتجزأ من بلد اكتسب مع ميزاته وتفوقاته المختلفة، صفة «سويسرا الشرق»، فأين هو الآن مما كان عليه، وأين هو الآن وضع قياداته وزعاماته مما كان عليه وضع الحكم ومسيرة الحياة العامة في سنوات الخير والرخاء. نبحث حاليا عن أمثال تقارب في صفاتها ووهجها وعطائها، ما كان عليه وضع الرؤساء والقادة بشارة الخوري ورياض الصلح وصولا إلى فؤاد شهاب وريمون إده والياس سركيس وكثيرين غيرهم، نبحث في هذا الإطار عن بدائل واضحة وناجحة نسدُّ بها ثغرات هذه الأيام السوداء، فتختفي من أبحاثنا كل الصور الإيجابية والمقومات الإنسانية والسياسية البديلة.

 

ما يبرز في هذه الأيام للرأي العام، جرأة متمثلة بزعامات روحية تتجاوز الواقع المرّ وكل المستلزمات التي يقتضي أن تؤسس لمواقع مدنية تمسك بمفاصل الرأي العام والحياة العامة، وتنهض بالبلاد المنحدرة إلى أقصى حدود التراجع والإنحلال مستعينة بقوتها الشعبية والفكرية، ولكن مع الأسف الغياب في هذا الإطار، كامل، والغوص إلى أقاصي المجهول السلبي، يدفع بنا جميعا إلى اندثارات يرى الكثيرون أنها تناطح مواقع التلاشي والزوال.

 

وبعد: نتجاوز القيادات اللبنانية المدنية التي تغرق في نزاعاتها وخصوماتها بحيث أن المرء لا يجد حزبا أو جهة منها متفاهمة ومتآلفة مع جهة أخرى، حتى ضمن الفئات نفسها بإطاراتها المدنية والمذهبية والحزبية والمناطقية كافة، تكثر الزعامات والخصومات والتناقضات بما يمنع هذا البلد المنكوب عن تجاوز مصائبه وتحقيق وحدته وتغليب مصالحه الوطنية المختلفة على ما عداها من مطبات وخصومات وتدهور وطني شامل.

 

ونعمد بعد حالة اليأس والضياع التي تراود الجميع في هذه الأيام البائسة واليائسة، ونستمع إلى كلمات ونداءات متكررة من كبار رجال الدين المسلمين والمسيحين، وصولا في مواقفهم إلى حالات الغضب والاستنفار والدعوات الصريحة الجادة إلى تجاوز حالات الإنهيار الشامل القائمة. ومن بين هذه الفئة التي ما زال فيها نبض ينم عن حياة مستمرة وإن بكثير من المعاناة والمصاعب، وكأننا بالقيادات الدينية في أعلى مستوياتها، قد استغربت غياب السياسيّين الوطنييّن عن ساحات العطاء العام، فاحتلّت صفوفهم ومواقعهم، وباتت تدلي بدلوها كطليعة استهولت كل هذا التراجع الخطير الذي يكاد أن يوصل البلاد والعباد إلى تهلكة مؤكدة. في هذا الإطار، نستمع إلى المناداة التالية للمطران عودة يناشد فيها المسؤول الأول في هذه البلاد المغلوب على أمرها فيقول: يا فخامة الرئيس أنت أب اللبنانيين وشعبك يناديك وله حق عليك، منذ سنوات، لبنان يعاني، وقد تدهورت أوضاعه إلى مكان يصعب الرجوع منه، أنقذ ما تبقى من عهدك وقم بخطوة شجاعة يذكرها لك التاريخ، اللبنانيون يعرفونك ويعرفون أن طموحك كان كبيرا، وقد وضعوا آمالهم فيك فلا تخيّب الآمال، وتلى ذلك كلمات ومطالب شجاعة ومحقة، وقد توافق ذلك مع نداءات عديدة لسماحة المفتي دريان والبطريرك الراعي، ونداءات حفلت بها أوساط المجتمع اللبناني بأسره وبكل فئاته وجهاته، وهي توجه الإستغاثات التي تواكب عادة، محنا كبرى تمرّ بها الشعوب وتستعصي على حلول المسؤولين الذين لم يعد يعنيهم في هذه الدنيا إلاّ الإطاحة بكل السدود والحدود والعواقب التي يمكن أن تطال كل مسؤول شارك الدولة ومؤسساتها بملكية المال العام وحقوق المواطن الذي طاوله الجوع والمرض والتشرد وعصفت بأبنائه الشابات منهم والشبان خاصة، موجة من اليأس والرغبة الجامحة في الهجرة إلى أيّ من بلاد الله الواسعة التي تؤمّن لهم لقمة العيش وكرامة الحياة، في مجتمع يقيهم شرّ النهّابين والسارقين والفاسدين بشتى أنواع الفساد وفروعه، القديم منها والمستحدث. فيا رجال الدين الذين هالتكم المصائب، أنتم تحلّون في هذه الأيام العجاف مكان قيادات وزعامات تتجاهل كل ما في هذا الوطن من مطبّات ومخاطر، ولا يعنيها إلاّ مصالحها ومكاسبها، بينما البلاد تمعن في الغرق السحيق.