Site icon IMLebanon

عن “الخلوة الروحيّة”!

 

لا يمكن المرور مرور الكرام أمام دعوة بكركي النواب المسيحيين إلى «خلوة روحيّة»، إذ تأتي هذه الدعوة بعدما راكم البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي منذ حقبة ما قبل انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون الدعوات لانتخاب رئيس جديد قبل مغادرة الرئيس قصر بعبدا واتخاذ الخطوات الضروريّة للحيلولة دون دخول البلاد في مرحلة الشغور الرئاسي إلا أنّ كل تلك الدعوات لم تلق الآذان الصاغية.

 

ولم يقصّر البطريرك في الاستفادة من ثراء اللغة العربيّة لإطلاق النعوت المختلفة بحق النواب المقصرين في القيام بواجباتهم ولو أنّ صفة التعميم وضعت الكتل جميعها في سلة واحدة وفي ذلك بعض الاجحاف لأنّه يساوي بين المعطلين وغير المعطلين. فالكتل البرلمانيّة التي تعطّل النصاب معروفة وهي تتفق على الهدف من دون الاتفاق على المرشح لذلك اقترعت مراراً وتكراراً للورقة البيضاء.

 

لعل الخلوة الروحيّة، إذا ما انعقدت، تتيح لحظات من التأمل للنواب للتفكير حقاً بمآلات الوجود المسيحي في السلطة والتي يفترض الحفاظ عليها وفق قاعدة المناصفة التي تحدث عنها اتفاق الطائف بمعزل عن كل الأصوات التي ترجم الاتفاق يوميّاً وتريد استبداله بخيارات تقسيميّة مثيرة للشبهات والاشمئزاز في آن.

 

ولربما تدفع هذه الخلوة، بشكل أو بآخر، للتفاهم على اسم يكون مقبولاً على الصعيد الوطني ويتم التفاهم مع القوى الأخرى الممثلة في المجلس النيابي، على الرغم من أنّ تجارب بكركي في تسمية المرشحين للرئاسة لم تكن موفقة في ما مضى خصوصاً في العام 1988، إذ تبيّن أن هذه الخطوة تضع الصرح البطريركي في مواجهة مع الكثير من المسترئسين من أبناء الطائفة المارونيّة من دون أن تؤدي التسمية بالضرورة للأخذ بها تبعاً للظروف التي غالباً ما تحيط بالاستحقاق الانتخابي اللبناني الذي قلّما يكون استحقاقاً محليّاً مجرّداً من الاعتبارات الخارجيّة، وهذه مشكلة أكثر عمقاً تتصل بالواقع اللبناني وطبيعة الانقسامات المحليّة التاريخيّة التي تتيح تدخلات من الأطراف الفاعلة في الساحة الاقليميّة.

 

إذا كان عقد خلوة من هذا النوع يساعد على الخروج من عنق الزجاجة فليكن، ولو أن المشكلة التي تتعمّق محليّاً عند مقاربة الاستحقاقات الدستوريّة تتصل بالأدبيّات السياسيّة المريضة، إذا صح التعبير، والتي تريد إلصاق كل استحقاق حصراً بأبناء طائفته أي أنه ممنوع على المسلمين مقاربة ملف انتخاب رئيس الجمهوريّة، وممنوع على المسيحيين مقاربة ملف رئاسة المجلس النيابي أو رئاسة مجلس الوزراء وفي ذلك تقسيم مقنّع وبشع لوظائف المؤسسات وأدوارها الوطنيّة المفترضة.

 

وألحق هذا المنطق بالمنطق «الأكثر تمثيلاً» في طوائفهم، بمعنى ألا يشغل تلك المناصب إلا من يتمتعون بتمثيل شعبي واسع. بمعزل عن رئاسة المجلس النيابي التي يفترض على شاغلها أن يكون نائباً ويحظى بتمثيل شعبي بحكم نيابته، هل كل رؤساء الحكومات في لبنان كانوا يحظون بتمثيل شعبي واسع؟ وهل كل رؤساء الجمهوريّة كانوا يترأسون كتلاً نيابيّة؟

 

لقد تولى رئاسة الحكومة اللبنانيّة العديد من الشخصيّات اللبنانيّة المرموقة ممن لم تنطبق عليهم هذه الصفة ولم يشكك أحد بوطنيتهم أو أعمالهم، والأمر ذاته ينطبق على عدد من الرؤساء، من فؤاد شهاب إلى شارل حلو وإلياس سركيس وسواهم. فلماذا افتعال هذه المشكلة اليوم وإضافة المزيد من التعقيدات على ملف معقد أصلاً؟

 

المشكلة تتمثّل في أنّ اختلاف القوى المسيحيّة الكبرى على اسم الرئيس يعطّل الاستحقاق و»ينزع» الصفة التمثيليّة والميثاقيّة عنه (وهذه أيضاً من بدع آخر زمان)، في حين أنّ اتفاقها قد لا يفضي بالضرورة إلى تبنّي الخيار الأمثل (مثلماً حصل في تسوية 2016 التي أتت بالعماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة).

 

بقدر ما يتسع التفاهم الوطني على الرئاسة بقدر ما ترتاح البلاد. إنها القاعدة الثابتة.