Site icon IMLebanon

حيرة في اختيار التخصُّصات… من يُوجِّه الطلاب؟

«طرنيب»، «400»، «candy crush»، هذا كل ما حفظه كلود من عامه الجامعي الاول كونه أمضى الحيّز الأكبر منه متسكّعاً في الكافيتريا، إلى حدّ ظنّ بعض زملائه أنّه موظف. «إخترت العلوم السياسية هرباً من فكرة امتحانات الدخول فتبيّن لي، «مش شغلتي ولا بتطّعمي خبز». يقول كلود وهو يُعدّ أوراقه ليتسجل ثانية، عسَى الحظ يبتسم له هذه المرة في المحاماة، مردّداً: «في نظر أمي أنا «ما بفرُز»، وأميل إلى الحفظ أكثر من التحليل، لذا لم أفكر ملياً في تخصّصي».

تململ، ضياع، حيرة، تردّد… سيل من المشاعر السلبية تتجاذَب الطلاب في هذه الفترة سنوياً، خصوصاً للمشرفين على المرحلة الجامعية. أيّ اختصاص نختار؟ من يوجّهنا؟ في أي تخصّص نبرع وأين قد نفشل؟

تكثر الاسئلة وتتداخل هواجس الطلاب الذين يقفون عند مفترق طرق، قلّة تحسن اختيار تخصّصها، فيما الغالبية تنحرف عن مسارها الجامعي، فيترنّح مستقبلها «لا معلّق ولا مطلّق»، أو في أسوأ الحالات قد تكمل عامها الجامعي على مضض في انتظار أن تجرّب حظها في تخصّص ثان، ضاربة عرض الحائط ما لا يُعوّض، سنين العمر بالإضافة إلى ما تكبّدته من مصاريف.

«مَتاهة» التخصصات

كانت كارل في الـ19 من عمرها يوم اجتازت امتحان الدخول في إدارة الاعمال. فرحتها لم تكن تتّسع لها، أنهَت الإجازة بتفوّق، لكنّها قطعاً لم تجد نفسها في هذا المجال. فكّرت ملياً وظنّت أنّ خلاصها في التوجه إلى العلاقات العامة، فلم تتردّد في التقدم لامتحان الدخول وخوض غمار تخصّص جديد. إلّا أنّ إحساس المرارة لم يفارق تلك الشابّة التي اختبرت حالاً من الضياع وأنّ وظيفتها المستقبلية ليست في هذا المجال، بيد أنها أبت الإستسلام في منتصف الطرق وأنهَت تخصّصها بنيلها الاجازة.

ثم واصلت البحث عمّا يمكن أن يكون فعلاً مكمّلاً لشخصيتها ويلبّي طموحها. بعد طول عناء وبحث عميق، وجدت كارل في مجال المحاماة هويتها، وهي الآن تستعد لإكمال عامها الجامعي الثالث، وعينها على مواصلة مسيرتها الاكاديمية نحو القضاء.

تروي كارل لـ«الجمهورية»: «قد يسخر البعض من المسار الطويل الذي خضته وأنا أبحث عمّا أحبّ العمل فيه، ولكن في الواقع أن نسمع عن الاختصاص شيء وما نتعلّمه في الجامعة شيء مغاير، وما قد نعمل به في وقت العمل شيء مختلف كلياً، لذا كنت أصدَم مع اقتراب تخرّجي وإنسداد المجالات المتاحة».

وتضيف: «إختيار التخصّص أشبه بالزواج الماروني، لا طلاق، نعتاش منه، ننمو ونتطوّر بفضله، لذا لو فعلاً توافر من وجّهني في المرحلة الثانوية لأحسنت الاختيار منذ العام الجامعي الاول». لا تنكر كارل أن تعدّد التخصصات حَصّنها، وأثقلَ مهاراتها، ولكن «عمري كِلّو دَفنتو بالدرس» على حدّ تعبيرها، ولكن سرعان ما ترتسم الضحكة على وجهها مردّدة: «mieux vaut tard que jamais».

«كِلّو وَلا الميكانيك»

أمّا عصام فتجربته مغايرة، ولا تقلّ عذاباً وحيرة عن كارل، فهو صغير البيت ووليّ عهد العائلة، أي «الحيلة والفتيلة» وفق الحسابات اللبنانية. من سوء حظ هذا الشاب أنّ شقيقاته الثلاث بَرعن في المجال العلمي، أما هو فلم يبرع لا في العلمي ولا الأدبي، على حد تعبير والدته: «بَيو غنّجو لَنَزعو، بطّل يفوت براسو عِلم».

فكل ما يهواه عصام هو ميكانيك السيارات، نظراً إلى العلاقة المتينة التي نَمت باكراً بينه وبين عالم السيارات، فيروي لـ»الجمهورية»: «كانت المدرسة جنب المنزل لكنّ والدي أبى إلّا أن أذهب إليها في السيارة ومن دون حتى رخصة سوق، متباهياً «إبني أوّل مَن ركب سيارة بين أترابه»…».

ويضيف: «إنشغلت في عالم السيارات وبات رفاقي يقصدونني لأي مشكلة، وتدريجاً وجدت نفسي في هذا المجال، لكنّ المشكلة إنفجرت نتيجة تَمنّع أهلي أن يكون في يدي مصلحة، فهم يوجّهونني إلى الهندسة الميكانيكية وأنا أرغب في أقصر طريق، وقد تكون في الاتجاه المهني، ولكن حتى الآن المناوشات قائمة، ولا حل في الأفق».

كي تختار تخصّصك

حيال هذا الواقع الضبابي، وبعد جولة قامت بها «الجمهورية» على عدد من المدارس التي تولي أهمية لتوجيه طلابها قبل إنهائهم المرحلة المدرسية، تبرز مجموعة من الجهود الخاصة التي تحاول سدّ غياب التوجيه الرسمي الفعلي على مستوى الوطن ككل.

ومن بين تلك المساعي، ما تُطبّقه جامعة الروح القدس-الكسليك من خلال مكتب التوجيه والإرشاد الذي يُديره الدكتور نسيب قزي. بحماسة يتحدث قزي لـ«الجمهورية» عن برنامج توجيهي عمره سنوات ويتنقّل من عام إلى آخر بين المحافظات اللبنانية كافة بحسب طلب المدارس أو بحسب رغبة فردية لدى الطالب.

فيقول: «يطاول برنامج مكتبنا الطلاب في المرحلة المتوسطة على نحو أوّلي، إذ نبدأ في مرحلة مُبكرة تعريفهم بالمهن والفرق بين التوجيه المهني والاكاديمي، ونحرص في هذه المرحلة على أن نظهر لهم أهمية إتقان لغات على اعتبار أنها جواز عبور في الميادين كافة، إذ يتخرّج معظم التلاميذ وهم يعانون ضعفاً في اللغات». ويتابع قزي: «في الاول ثانوي نركز مع الطلاب على إجراء بحث بسيط عن أي وظيفة يختارونها، ولا نفرض عليهم أي خيار».

تجربة الـshadowing

وفي الثاني ثانوي؟ يجيب قزي: «نذهب معهم إلى العمق، فضمن البرنامج المخصّص للتوجيه، إختبار أعدّته الدكتورة سهيلة سلوم يتضمّن نحو 100 وظيفة، وعلى كل تلميذ أن يضع الوظائف بتسلسل محدد خلال ربع ساعة، بعدها ننتقل معه لإدخال أجوبته إلى البرنامج بطريقة آلية حيث يتمّ تحليلها، وإخراج النتائج النهائية، والتي على أساسها ننصحه بالوظائف التي يبرع فيها».

ويضيف: «من خلال اختبار ثان أعدته الدكتورة نادين زلائط، نتمكن من التعرّف إلى سِمات شخصية الطالب والقيَم التي يتمتع بها، من حسن تنظيم، وحب الإدارة، وغيرها، وعلى هذا الاساس نوجّهه إلى المجالات الاقرب إلى شخصيته».

إلّا أنّ التوجيه الذي يتضمنه هذا البرنامج لا يقف عند هذه الحدود، فيقول قزي: «قبل تطوير برنامج التوجيه الخاص بمكتب الجامعة، نعمد سنوياً إلى ما يعرف بالـ shadowing، إذ نتيح لطلاب المرحلة الثانوية المشاركة في صفوف الجامعة ليتمكنوا من إدراك طبيعة الاختصاص بصورة عامة.

بدأنا مع 40 إلى 50 طالباً مندفعاً لاستكشاف التخصصات، والآن نستقبل نحو 2000 طالب سنوياً، إذ يمضي الطالب يوماً كاملاً يتعرّف من خلال الاساتذة إلى طبيعة الإختصاص الذي يرغب به بالاضافة إلى الحياة الجامعية».

أما بالنسبة إلى الطلاب الذين يحلمون بالطب، فيلفت قزي إلى «أن الجامعة تتيح لهم، بالتعاون مع مستشفى سيدة المعونات وبالتنسيق مع الدكتور زياد خوري، التنقّل، ليوم واحد، في عدد من أقسامها والتفاعل مع الاطباء للإجابة عن أكبر قدر من هواجسهم».

كلفة البرنامج المادية

بصرف النظر عن أنّ هذا البرنامج يسدّ نقصاً كبيراً يفتقر له الطلاب في التوجيه، فهو يمتاز بأنه مجاني، ويمكن لأي مدرسة تَبنّيه من خلال التنسيق مع مكتب التوجيه، مع الإشارة إلى أنه لا يلزم المدارس بشيء. أما بالنسبة إلى الطلاب المهتمين ربما على عكس إدارة مدرستهم، فيؤكّد قزي: «بِوسع الطلاب الحضور لاستشارتنا على نحو فردي على مدى العام باستثناء شهري تموز وآب نظراً إلى الضغط الطالبي ومراجعتنا للملفات المُحالة»، مشيراً إلى «انّ الجامعة لا تلزم الطلاب بأي تخصّص داخل حرمها، ولا نتردد في توجيههم إلى تخصصات أو مجالات قد لا تكون متوافرة لدينا، فقبل كل شيء نهتمّ بمستقبل الطالب وصالحه».

أين الإرشاد الرسمي؟

يصعب حصر المشكلات التي يواجهها الطلاب، وأحياناً تضيع المسؤوليات بين المدرسة، والجامعة، والوزارات المعنية. في هذا السياق يبرز سؤال، أيّ دور لجهاز الإرشاد والتوجيه في وزارة التربية؟

توضح مديرة الارشاد والتوجيه هيلدا الخوري، «أنّ مديرية الارشاد تأسست منذ عشرات السنوات، ولكنها تركّز في الحَيّز الاساس على تعاملها مع الاساتذة، وفي جزء آخر مع الطلاب عبر بعض الوحدات منها التوجيه التربوي، كذلك تتعاون الوزارة مع جمعيات من المجتمع المدني، عدد من الجامعات والمنظمات الدولية التي تعرّف الطلاب الى التخصصات المتاحة».

لا تدّعي الخوري انّ هذه الاجراءات كافية، قائلة: «نعلم تماماً أنّ بعض الطلاب يغادرون الفصل الاول من عامهم الجامعي منذ الايام الاولى، إذ يصطدمون بالواقع، وغالباً ما نسمع، «فِتنا ع أساس شي واكتشفنا شي تاني».

وتضيف: «نظراً لأهمية توجيه الطلاب وما يمكن تجنّبه من مشكلات مستقبلية، نفكر على المدى المتوسط، في إطلاق وحدة ضمن وحدات الإرشاد خاصة بتوجيه الطلاب، تساعدهم على اختيار توجّههم المهني، وذلك من خلال مشاريع تركّز على شخصيتهم وقدراتهم». وأضافت: «سنتعامل ليس فقط مع الصفوف الثانوية العامة بل المتوسطة أيضاً، لأنّ منهم من يرغب في التوجيه المهني وليس الاكاديمي».

صفوف ميدانية… قريباً!

وتأسف الخوري لغياب «دراسة شاملة عميقة تجمع بين احتياجات السوق والتخصّصات المتاحة»، مشيرة إلى أنّ «مسؤولية التخطيط مشتركة وتقع على عدد من الوزارات، والاحصاء المركزي، والقطاعات وليس فقط وزارة التربية».

وترفض الخوري اعتبار أنّ الوضع الأمني المتقلب يمنع تحديد حاجات السوق في لبنان، قائلة: «لا يمكننا التذرّع بالحرب، فهذه حجّة نستخدمها لنتلطّى وراء تقاعسنا، ولكن في أي بلد يتوافر حدّ أدنى من التخطيط وتصوّر للمستقبل من خلال داتا مشتركة بين أجهزة الدولة».

تذهب الخوري أبعد من ذلك، مشيرة إلى أنّ التوجيه سيدخل تدريجاً ضمن المناهج التعليمية، «على نحو يتضمّن فيه الصف جانباً ميدانياً تطبيقياً وليس فقط نظرياً، بذلك نوفّر توجيهاً غير مباشر لمهنة المستقبل، وهذا جزء من «النَفضَة» والتعديل الجاري على المناهج في المركز التربوي للبحوث، لذا نحن في مرحلة انتقالية».

في بلد يختنق اقتصاده، وتترنّح مؤسساته بين الشلل والتعطيل وغيرها من المشكلات، من البديهي أن يبحث الحَيّز الاكبر من طلابه على الوظائف الاكثر ربحاً أو الاقل درساً لتأمين لقمة عيشهم. ولكن، يبقى أن نتذكر أيّاً تكن المرحلة الدراسية طويلة، أو الارباح المنتظرة مغرية، فإنّ معرفة اختيارنا لوظيفتنا تبقى هي الاساس نظراً لالتصاقها بحياتنا اليومية وتشكيلها جزءاً من هويتنا.

وقد تقف فئة من الطلاب متفرّجة على اعتبار «مِنضَلّنا من أزمة لأزمة»، فيأتي من يقنعها بعدم جدوى «تعليق الشهادة على الحيط»، إلّا أنّ ربط المستقبل بالأزمة ليس سوى انتحار، ولا بد أن نكون مستعدين، «ما تقولوا طوَّل هالليل قولوا بُكرا جايي نهار».