Site icon IMLebanon

«الربيع» الحادي عشر  

 

أحد عشر عاماً يا سمير قصير.. أحد عشر عاماً شهِدَت من التحوّلات والتبدّلات، ما يُفتقد فيه إلى رأيك السديد، وعينِ المثقّف الموسوعي الثاقبة فيك، وكلمَتِكَ المُلتقِطة لحقيقة المسار. انتفاضات حرية، ثورات وثورات مضادة، انهيار أنظمة أو «شبه أنظمة» ومجتمعات، تطرّف يخبط يميناً وشمالاً، من دون أن يتماشى ذلك مع حيويّتك أنت المعهودة في تفكُّر اللحظة.. حيوية في تفكُّر السنوات الفاصلة بيننا وبينك يا سمير.

في ذكرى اغتيالك، في ذكرى الربيع البيروتي المقموع يومها، أو المتوقف في نصف الطريق ثم المغدور به، في ذكرى الانتقام الإجرامي من انتفاضة الشعب اللبناني الاستقلالية، ومنك يا مثقف الحرية، يا مؤرخ بيروت، يا وجدانها وضميرها، لك منّا كل التحيّة. ولك منّا كل المصارحة: لم يسقط نظام الطغيان الدموي في دمشق بعد، لكن الثورة مستمرة، رغم محاصرتها من كل منظومات التعالي على حقوق الشعوب في عالم اليوم. 

حال الحريات في العالم العربي إلى مزيد من التراجع، تجارب الديموقراطية تعثرت من بعد إفراط في التفاؤل هنا وهناك، مع استثناء يُراكَم عليه، يؤسِّس للنموذج العربي المُراد، حيث تشهد تونس تجربة مهمة على صعيد صياغة دستور مدني وقيام منظومة تداول السلطة.

الصهاينة من يمين متطرف إلى يمين أكثر تطرفاً. أفيغدور ليبرمان «ما غيره» هو الآن وزير دفاع في الدولة العبرية يا سمير قصير. تخيّل. الطغاة عندنا استشرسوا أكثر من كل وقت، والمستعمر الأخير على كوكب الأرض يصل بدوره إلى انحطاط بعد انحطاط. لكن، في فلسطين، كما في سوريا، كما في لبنان، هناك جيل جديد، بجرأة وتوثُّب، يتابع مسيرتك يا سمير، وشبابه وشاباته لن يعودوا عن طلب الحرية والاستقلال والحقوق، ولن تنجح معهم كل أشكال التخويف الاستعماري كما القبلي والطائفي، وكل سياسات الهوية المنكمشة على ذاتها، المتأكّلة من الداخل، في ثنيهم عن هذا العزم. 

وما هو إرثك الأساسي يا سمير قصير إن لم يكن تعليمَنا عدم الخوف، وصناعةَ الحريةِ يوماً بيوم، وكل يوم؟

لم نخبرك عن لبنان. مهلاً. هناك، فيه أسباب كثيرة للتشاؤم في الوقت الحالي. لا انتخابات نيابية، وقد تأجلت مرتين ومدّد المجلس لنفسه حتى حزيران 2017. لا اتفاق على قانون انتخابي، وكل طائفة تريد أن تُملي القانون الذي يحلو لها على الأخرى، بل كل زعيم، بل كل نصف زعيم، والكل يستهلك نفسه في هذه الدوامة. ولا رئيس، لا رئيس جمهورية منذ سنتين، والمجلس «السيد نفسه» تعطّلت فيه أربعون جلسة انتخاب. الكل يُطمئن نفسه أنه هو أو لا أحد. دخلنا في العام الثالث.. وثَبتْنا. 

«حزب الله» يحارب في سوريا كما تعرف، منذ سنوات. وشبابه يُحملون بالنعوش كل يوم ليُدفنوا في القرى الحزينة، الاستنزاف يتعاظم.. والمكابرة على حالها. 

قوى الرابع عشر من آذار أمست مسرحاً للانفعالية، والكيدية، بوجه بعضها بعضاً. الكل يستذكرك كشعار، كطقوس، لكن أيننا الآن وأينك يا شهيد ثورة الأرز؟ 

في المقابل، جيل جديد مدني، تحديثي، يعتمد في العمل العام على مبدأ الشفافية، والعمل الجماعي، والمراكمة الدؤوبة، يطرح نفسه بشكل جدّي أكثر فأكثر، وقد رأيناه في الانتخابات البلدية الأخيرة يوجد حيثية قريبة جداً من روحك وما اختطّه لنا قلمك، حيثية تنتمي إلى القيم المستنيرة والحضارية، إلى الحرية. 

الحرية يا شهيدها تقاتل على كل الجبهات. لم تسقط ولا في جبهة.. ولم تحسم أي جبهة بعد. وأنت أدرى أيها «الرفيق» والمؤرخ و»المعلّم» والصديق، يا مؤرخ الحقبات الطويلة الأمد والكاتب الصحافي الذي يعتني بتتالي الأحداث في الوقت نفسه. أنت أدرى بشروط كفاح الحرية، وأنت أدرى بليل العرب، بشقاء الاستبداد والطغيان، والثقافات المبررة لهما، أو اللاجئة إلى الإرهاب والتطرّف العدميّ. أنت أدرى بتعقيدات الصراع بين التنويريين والظلاميين، بين الأحرار والمستبدّين، بين المطالِبين بالعدالة الاجتماعية وبين أرباب الاحتكار والقهر، بين حُماة التنوّع البيئي والاقتصاد المستدام، وبين مافيات تدمير كل هذا، والإجهاز على كل ما هو أخضر، ونضِر، وحَيّ. 

أنت الحيّ يا سمير قصير. من كانوا أطفالاً يوم اغتيالك، هم اليوم، في «ربيعك» الحادي عشر، جيل ديموقراطي حرّ جديد.. قبله ليس كما بعده بالتأكيد.