IMLebanon

ربيعُ الديبلوماسيّةِ أم ربيعُ الجيوش؟

 

لم يَسبِقْ أن ارتفَعت حِدَّةُ المواجَهةِ بين روسيا مِن جِهةٍ، وأميركا وأوروبا من جهةٍ أخرى، إلى هذا المستوى منذ انتهاءِ الحربِ الباردةِ بدايةَ التِسعينات.

لم يَسبِقْ أن أرسَلَت روسيا جيشَها البَـرّيَ والبحريَّ والجوّيَ إلى دولةٍ عربيّةٍ هي سوريا ليقاتلَ، وقَلَبت موازينَ القِوى في الشرقِ الأوسط، وتَصرَّفت إحاديًّــا عسكريًّا وديبلوماسيًّا (مؤتمرا أَستانا وسوتشي).

لم يَسبِقْ أن تَـدخَّلت الولاياتُ المتَّحدةُ الأميركيّةُ عسكريًّا في سوريا، وأَنشأت ثمانيَ قواعدَ عسكريّـةٍ من دون تكليفٍ أُمميٍّ أو طلبٍ حكوميٍّ سوريّ.

لم يَسبِقْ أن عَرفَت الولاياتُ المتّحدةُ الأميركـيّـةُ، الدولةُ المؤثِّرةُ في أحداثِ العالم، رئيسًا كــ»دونالد ترامب» يَزهو بتغييرِ نُظمِ العَلاقاتِ الدوليّةِ ومواثيقِها، ومُستعِدٌّ لاتخاذِ قراراتٍ وخِياراتٍ عسكريّةٍ أو سلميّةٍ لا يَتوقَّـعُها حتى المقرَّبون منه.

لم يَسبِقْ أن حازَت إيرانُ على الطاقةِ النوويّـةِ، وبَلغَت شواطئَ البحرِ الأبيضِ المتوسِّط وحدودَ إسرائيل، وسيطرَت على أربعِ دولٍ عربيّةٍ (العراق، سوريا، لبنان واليمن).

لم يَسبِقْ أن أصبحَ حزبٌ مَذهبيٌّ (حزبُ الله) أقوى من دولةٍ فيها تِسعَ عشْرةَ طائفةً وجيشٌ وأجهزةٌ أمنيّةٌ، ويُشارِك في حروبٍ خارجيّةٍ كأنّه دولةٌ قائمةٌ بذاتِـها، ويُهدِّد دولاً وأنظِمة.

لم يَسبِقْ أن شَعَرت إسرائيلُ بخطرٍ حقيقيٍّ على أمنِها مثلما تَشعُر اليوم بسببِ القوّةِ الصاروخـيّـةِ لحزبِ الله والمشروعِ العسكريِّ الإيرانـيِّ ضِدَّها.

لم يَسبِقْ أن احتلَّ الجيشُ التركيُّ أرضًا عربيّةً منذ سقوطِ السلطنةِ العُــثمانـيّـةِ نحو سنةِ 1918 مثلما فَعَل في شمالِ العراق (2015/2017) وفي شمالِ غربِ سوريا سنةَ 2018

لم يَسبِقْ أن تَعرَّضَ الشرقُ الأوسط لتغييرٍ ديمغرافـيٍّ ذي بُعدٍ دينيٍّ ومذهبيٍّ وإتنيٍّ، وأنْ بَلغَت كياناتُه واقعَ التفتيتِ والتآكُلِ والبَلقَنةِ كما هي حالُه منذ بِدءِ «ربيعِ الدَّمِ العربيّ» سنةَ 2011، بل منذ احتلالِ أميركا العراقَ سنةَ 2003.

لم يَسبِقْ، منذ غزوات الـمُغول في القرنِ الثالثَ عشَر، أنْ تَـحَوَّلَ الشرقُ حقلَ دَمارٍ وخَرابٍ وموتٍ ومجازِر. أَمسَت أرضُه حَلبةَ ثيرانٍ بشريّـةٍ يمارسون إباحيّـةَ القتلِ الفرديِّ والجَماعيّ. قتلى على مدِّ النظَر: سُنّةٌ، شيعةٌ، مسيحيّون، أكرادٌ، سَنجار، إيزيديّون، دروز، علويّون ومختلَف… صار الدمارُ هو الكِيانَ الباقي.

هذه السابِقاتُ التاريخيّةُ خطيرةٌ، ويَستحيلُ أنْ تدومَ طويلاً من دونِ انفجارٍ مُرتَجى ـــ نعم مُرتَجى ـــ يُعيدُ النظرَ بـــ«فوضى الأحجام» وباستباحةِ الشعوبِ وبسَبي الثروات. لكنَّ ما نراه اليومَ، هو أنَّ الأعداءَ يَتعايشون ـــ بل يَـتواطَــأُون ـــ على أرضٍ واحدةٍ وأحيانًا في قريةٍ واحدةٍ ويَتبادلون الإحداثـيّات.

كلُّ هذه القِوى الجبّارةِ استقرّت ورسَمت خطوطًا حمراءَ مؤقّتةً تَتحرّك داخِلَها غيرَ عابئةٍ بمآسي الإنسان، وانتهَجَت سياسةَ حُسنِ جوارٍ عسكريٍّ في ما بينَها بانتظارِ انتهاءِ حساباتِ الربحِ والخَسارة، وحَـوَّلت دولَ الشرقِ وشعوبَه أسهُـمًا تتوزّعُها وتَنقُلُ مِلكــيّتَها من دونِ وَكالةٍ أو كَفالة.

حينَ نسمعُ تصاريحَ قادةِ هذه القوى نَخالُ الحربَ واقعةً غدًا، ولمّا نرى سلوكَها المَيدانيَّ نَكتشِف أنّـها تَتشاركُ في صناعةِ استعمارٍ جديد. اكتفَت بإقصاءِ القِوى الديمقراطيّة وبالقضاءِ على تنظيمِ «داعش» (أو بإعادةِ توطينِه). سَقطت دولُ الشرقِ بكياناتِها وارتفعَت المدائنُ بخَرابِها. لن يكونَ الشرقُ الآتي قوميًّا وعروبيًّا وفارسيًّا ومدنيًّا وديمقراطيًّا، بل خليطَ أحلامٍ صغيرةٍ مذهبيّةٍ وطائفيّةٍ تعيش على استيلادِ الصِراعات.

رُغم ذلك، نحن في المؤقَّت؛ إذ لا بدَّ للواقعِ غيرِ المسبوقِ مِن أنْ يتحوَّلَ في لحظةٍ ما حدثًا عظيمًا يكون له التأثيرُ الفاصلُ على كِياناتِ المِنطقةِ وأنظمتِها وشعوبِـها ليولدَ واقعٌ جديدٌ نأمَلُ أنْ يَختُمَ دربَ الجُلجُلةِ الدّمويَّ الذي سار فيه الشرقُ من محطّةِ 1990 مرورًا بمحطات 1991 و2001 و2003 و2006 و 2011 إلى هذه اللحظاتِ المأسَويّة.

في ما مضى، عرَف الشرقُ الأوسط حالاتِ «اللاسلم واللاحرب» في ظِلِّ توازنِ قِوى دوليٍّ (واشنطن وموسكو)، واختلالٍ في ميزانِ القِوى الإقليميِّ (العرب وإسرائيل ثمّ إسرائيل وإيران). اليومَ، يَشَهد الشرقُ واقعًا جديدًا يتمثَّلُ بتوازنٍ بين القِوى الدوليّة من جِهةٍ، وبتوازنٍ بين القوى الإقليميَّة أيضًا مِن جهةٍ أُخرى.

وإذا كانت الدولتان الكُبرَيان تعايشَتا في ظِلِّ الحربِ الباردةِ طويلاً طالما كانتا تُقامِران بأطرافٍ ثالثةٍ، فالدولتان الإقليميَّتان، إيران وإسرائيل، ستحاولان التمرّدَ على توازنِ القِوى بينهما، لأنّهما، خِلافًا لأميركا وروسيا، تعتبران أمنَـهُما المباشَر هو المهدَّدُ، وبخاصّةٍ إسرائيلُ التي تَـتحيّنُ الفُرصةَ لكسرِ المنظومةِ الإيرانيّةِ في لبنانَ وسوريا واستعادةِ تفوُّقِها الاستراتيجيّ. في أربعةِ أشهرٍ، أجْرت إسرائيلُ أربعَ مناوراتٍ عسكريّـةٍ ضخمةٍ (منها اثنتان مع الجيشِ الأميركي) تُحاكي الحربَ على جَبهتَي لبنانَ وسوريا. أهِيَ مناوراتُ تَـرَف؟

ويزدادُ القلقُ حين نَكتشفُ أمرين: الأوّلُ أنَّ غالِبيّةَ قادةِ هذه الدولِ المعنيّةِ بالشرقِ الأوسَط تَمرّ في مراحلَ انتقاليّة: من الحكومةِ الإسرائيليّةِ، إلى مُرشديّةِ الثورةِ الإيرانيّة، إلى النظامِ السوريّ، إلى النظامِ السعوديّ، فإلى إدارةِ دونالد ترامب. وتُرافِقُ المراحلَ الانتقاليّةَ هشاشةُ الوِحدةِ الوطنيّةِ في لبنانَ والعِراق ودِقّــةُ الأوضاعِ في بعضِ دولِ الخليج. والثاني: أنَّ الولاياتِ المتّحدةَ الأميركيّةَ تُعلِّلُ النفسَ بإنجازِ صلحٍ فِلسطينيٍّ / إسرائيليّ نهائيّ سَمَّتهُ «صَفقةَ العَصر»، ما يُوجِبُ تَحجيمَ إيران و»حزبِ الله» مُسبقًا لتمريرِ هذه الصفقة المشبوهة.

وما كان يَنقُصُ اللوحةَ أنْ يُحَوِّلَ الرئيسُ الأميركيُّ إدارتَه السياسيّةَ أركانًا عسكريّةً من خلالِ اختيارِ الصقورِ لـمَلءِ كلِّ مراكزِ القرارِ: من البيتِ الأبيض إلى الخارجيّةِ ومن الدفاعِ إلى الاستخبارات. غيرَ أنَّ الصقورَ قادرون على صناعةِ السلامِ لا الحربِ فقط، وعلى الانتصارِ من دونِ حربٍ إذا أَجادوا استعمالَ العقلِ والتلويحَ الجِدّيَ بالقوّة. مَن يَتذكّر أزْمةَ الصواريخِ في كوبا بين كينيدي وخروتشوف؟

لذا، إنَّ تفادي الحربِ بين إسرائيل وإيران ـــ في لبنانَ وسوريا على الأقلّ ـــ هو رَهنُ تحرّكِ الديبلوماسيّةِ الأميركيّة. فهذه الآلةُ، التي توازي جيشًا، شِبهُ مُعطَّلةٍ منذ انتهاءِ ولايةِ أوباما / كيري. والأنظارُ تنصَبُّ على قوّةِ الوزيرِ الجديد «مايك بومبيو» وديناميَّتِه عَلّه ينتَزعُ من روسيا وإيران سِلمًا ما تَتمنّى إسرائيلُ أن تأخُذَه من إيران و»حزبِ الله» بالقوّة.

إنَّ مصلحةَ رئيسِ «أركانِ» الديبلوماسيّةِ الأميركيّةِ أنْ يُحقِّقَ هو هذه الإنجازاتِ عِوضَ البنتاغون، فيعودَ له الفضلُ في توفيرِ حربٍ على أميركا وعلى الشرقِ الأوسط، ويفتحُ طريقَه إلى البيتِ الأبيض بعد ثلاثِ سنواتٍ.