لم تحمل لنا أخبار هذه الدورة من كأس العالم لكرة القدم أنباء عن سقوط قتلى في مواجهات بين مشجعين، باستثناء الشاب الذي لقي مصرعه في ضاحية بيروت الجنوبية في مناوشة بين مشجعي فرق أجنبية مختلفة.
ضحايا الكرة من أنصار الفرق المتنافسة كثر وارتبطت باللعبة ظاهرة «الهوليغان»، إضافة إلى ارتباط عميق بين كرة القدم والرياضة عموماً، وبين السياسة، يظهر بأشكال متنوعة.
جماهير الكرة العربية لها نوادي مشجعيها و «ألتراس» يهتف باسمها «في الشمس والظل» (بحسب عنوان كتاب لإدواردو غاليانو عن كرة القدم) وينزل إلى الشوارع لخوض معاركها ويتعرض للقتل في حوادث مشبوهة على ما حصل في استاد بورسعيد في 2012. لكنها من المرات النادرة التي يموت فيها شاب طعناً بسكين ضحية تأييده منتخب بلد آخر غير بلده على أيدي مشجع بلد ثالث. وفاة هذا الشاب يجب أن تدهشنا وأن تطرح الأسئلة القلقة عن مجتمعاتنا وانتماءاتنا وعصبياتنا وحروبنا وثقافتنا أيضاً. الحادث ليس طيش شباب ومعزولاً عن البيئة التي وقع فيها إلا بقدر ما ينعزل كل حادث عن الظاهرة العامة التي تنتجه والتي استكملت بمسيرات ابتهاج بالسيارات وعلى الدراجات النارية بفوز منتخب الشاب المغدور بعد ساعات على مقتله.
لا يمكن وضع كل سلوك في إطار العادية والتذرع بالتسلية والعفوية عندما يكون الثمن دماء تسفك في شوارع المدن والقرى اللبنانية التي تشهد جرائم قتل بسبب أفضلية المرور ومكان ركن السيارة وما يشبه ذلك من أسباب تعيد إحياء مناخات الحرب الأهلية حيث السيادة لحامل السلاح والمستند إلى العصبية الميليشياوية الأقوى. ناهيك عن صدامات مسلحة بين أهالي قرى وعائلات وعشائر تتنازع الملكيات العقارية وممرات التهريب أي «الموارد» بصيغتها البدائية الواقعة خارج منظومة الاقتصاد الوطني ودورته.
والحال أن لبنان اليوم ساحة تغص بتناقضات شديدة بين فوائض ونواقص. فوائض العصبيات التي لا تجد تصريفاً سلمياً لها على رغم الانتخابات (التي فاقمت العصبيات وأكدت على الولاءات ما دون الوطنية بدل أن تستوعبها على ما يفترض في بلد يزعم لنفسه حياة ديموقراطية، وفائض القوة الكامنة المنتظرة ساعة الانفجار التي يخرج بين فينة وأخرى مَن يجدد التعهد بوقوعها، فيما تعبر جماعات أخرى عن إحباطها العميق من سلسلة التراجعات التي تشهدها في السياسة وفي الموقع الاجتماعي- الاقتصادي، وفائض المال وتمركزه في قطاعات غير منتجة وفاسدة في مقابل فقر مدقع يضرب فئات ومناطق على غرار منطقة حي السلم التي قتل فيها الشاب بسبب مباراة كرة القدم.
ليس من المحال استمرار هذه الحال. وليس بالضرورة أن ينبلج الفجر بعد كل ليل، على ما علمتنا هزائم الثورات العربية. بل الأقرب إلى المنطق هو تصاعد حالات التفكك والتهرؤ إلى أن يصبح الانهيار العام هو السمة الوحيدة التي تلف الجماعات اللبنانية المؤتلفة في دولة تعجز عن الولادة.
وفي يد السلطة الحاكمة أدوات أمنية لا تزال فاعلة وتحول دون نشوب حرب الجميع ضد الجميع. لكن السلطة تفتقر إلى أبسط الأفكار عما سيكون عليه وضع بلدنا يوم غد صباحاً، باستثناء التفكير في تقاسم المواقع والمنافع والمال العام. لبنان ساحة تبحث عن دور.