لا يمكن فهم ما يجري من أحداث على الساحة اللبنانية، لا سيما تلك التي تدور في اللحظات المصيرية الصعبة، من دون قراءة الرسائل الدبلوماسية المبطنة، التي تنطلق من أكثر من عاصمة إقليمية ودولية فاعلة، نظراً إلى أن بلاد الأرز كانت على مدار التاريخ نقطة تلاق وصراع بين القوى المتحالفة والمتخاصمة، بحيث لا يكون دور الجهات المحلية أكبر من تنفيذ ما يتم الإتفاق عليه في الخارج.
ما تقدم تؤكد عليه أغلب الأحزاب والتيارات الفاعلة في لبنان، ولا تخجل به على الإطلاق، بل تعتبره جزءاً من العملية السياسية، القائمة منذ تأسيس الجمهورية على صراع بين محورين، حول الهوية والنهج والتوجه، لكن ما يختلف في المرحلة الراهنة هو الضوابط الموضوعة بعناية فائقة، والتي تمنع الذهاب نحو التحارب المسلح أو الفوضى الكاملة، بانتظار ما ستكون عليه وجهة الأحداث على مستوى المنطقة، وبالتالي كل ما يحصل يندرج في إطار اللعب في الوقت الضائع.
في هذا السياق، ستكون البلاد، في الأيام القليلة المقبلة، على موعد مع حدثين بارزين، الأول يتمثل في مغادرة السفير الأميركي في لبنان ديفيد هيل إلى مقر عمله الجديد، أما الثاني فهو الزيارة المرتقبة للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى بيروت، والتي حدد عنوانها بالظروف الصعبة التي يمر بها لبنان، نتيجة الفراغ الرئاسي وأزمة النازحين السوريين، ما يتطلب تقديم الدعم له مادياً ومعنوياً بأسرع وقت ممكن، وقبل ذلك كان الموقف الصادر عن كل من الرئيس الأميركي باراك أوباما والملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، الداعي إلى إنتخاب رئيس.
في ظل هذه المعطيات، تنقل مصادر سياسية مطلعة، عن أوساط دبلوماسية غربية، تأكيدها بأن الحفاظ على الإستقرار اللبناني لا يزال مصلحة إقليمية ودولية، بغض النظر عن كل ما يجري في الشارع من حراك غاضب بسبب ممارسات الطبقة السياسية الحاكمة، وتشدد على أن مبادرة رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى الدعوة إلى الحوار تأتي في هذا الإطار، بعد أن حصلت على قوة دفع من قبل مختلف الجهات المعنية بالملف اللبناني، من دون أن يعني ذلك تعليق الآمال الكبرى عليها، نظراً إلى أن مرحلة الحلول لم تبدأ بعد، وبالتالي لا يمكن التعامل مع بيروت على أساس أنها جزيرة معزولة عن محيطها المشتعل.
وتشير هذه المصادر إلى أن المطلوب من طاولة الحوار، بعد أن شغلت الحركة الإعتراضية في الشارع مختلف السفارات العاملة في البلاد، التصدي إلى الملفات المعيشية الداهمة، من خلال إعادة تحريك عجلة العمل إلى المؤسسات الدستورية، لا سيما المجلس النيابي ومجلس الوزراء، وتلفت إلى أن هذا الأمر واضح، عبر المواقف المؤكدة على أهمية الحفاظ على الحكومة الحالية برئاسة تمام سلام، خصوصاً أن سقوطها يعني الدخول في حالة الفوضى، التي لا يملك أحد القدرة على إدارتها من دون خسائر، نظراً إلى أن سلطة القرار موزعة بين أكثر من طرف محلي وإقليمي ودولي.
وتوضح المصادر نفسها أن هناك معادلة في لبنان يدركها الجميع، تقوم على أن الفوضى لا تحرج حزب الله وحده، كما يروج البعض، بسبب إنشغاله في الحرب السورية، بل تحرج أيضاً الفريق الآخر، خصوصاً تيار المستقبل، لا سيما أن الحزب هو القوة الوحيدة القادرة على ضبط الأوضاع في أغلب المناطق في حال عمت الفوضى، ما يفرض عملياً تبدلاً نوعياً على مستوى توازن القوى القائم، بالإضافة إلى أن الجماعات المتطرفة ستكون هي المستفيد الأول، بسبب قدرتها على النمو والإزدهار في مثل هكذا أوضاع.
هذا المشهد لا يغيب عن أذهان الكثيرين، حيث يؤكد عليه مصدر أمني، من خلال التشديد على أن إستنزاف القوى الأمنية في التحركات غير المنضبطة في الشارع، خصوصاً تلك التي تتحول إلى أعمال شغب، سوف يترك حرية العمل أمام الجماعات المتطرفة، ويلمح إلى العبوة التي تم إكتشافها، أول من أمس، في البقاع، بالإضافة إلى التوقيفات التي لاحقت أكثر من شخصية منتمية إلى تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» الإرهابيين.
ويلفت هذا المصدر إلى أن البلاد لا تمر بظروف طبيعية على الإطلاق، بسبب ما يجري في الدول المجاورة من أحداث، ويذكر بأن ما حصل في تلك البلدان بدأ تحت عنوان مطالب إجتماعية وإقتصادية أيضاً قبل أن يتحول إلى حروب أهلية، كان بنتيجتها سيطرة الجماعات المتطرفة على المشهدين السياسي والأمني، بالرغم من تأكيدها أن هذا لا ينتقص من أحقية المطالب المرفوعة في الشارع، لكن الحذر من أي حركة غير منضبطة يبقى ضرورياً في كل لحظة.
إنطلاقاً من ذلك، ترى مصادر وزارية، أن عنوان الحركة الدبلوماسية الفاعلة هو الحفاظ على الإستقرار الداخلي والحكومة القائمة، بالإضافة إلى الذهاب نحو إنتخابات رئاسية في حال سمحت الظروف في إنجاز هذا الإستحقاق، لكنها تجزم بأن المعطيات المتوفرة لا توحي بامكانية حصول ذلك، وتضيف: «المطلوب التعامل بواقعية مع الأحداث القائمة بعيداً عن الرهانات غير المنطقية».
وتشدد على أن الحديث عن مساع لتفجير الوضع الأمني في لبنان من قبل بعض الجهات الغربية غير دقيق، وتذكر بأن السفير الأميركي ديفيد هيل أكد لرئيس المجلس النيابي نبيه بري، أن الشخصيات المرتبطة بعلاقات مميزة مع سفارة بلاده في بيروت لم تتحرك بطلب منها، ما يعني أن القرار لم يأت من واشنطن، وتعتبر أن جلسة الحوار اليوم ستكون هي المؤشر الأساس الذي ينبغي التوقف عنده، حيث ستظهر نوايا كل فريق بشكل واضح.