Site icon IMLebanon

العنفُ المستقِرّ

 

نَجح الغربُ في إقناعِ إيران بالبقاءِ في الاتفاقِ النوويِّ وأَخفَق في إقناعِ واشنطن بعدمِ الانسحابِ منه. هكذا حافظَ الغربُ على فرصِ إعادةِ التفاوضِ انطلاقًا من الاتفاقِ نفسِه لكي يُنقِذَ ماءَ وجهِ طهران، وحَدَّ من احتمالاتِ اندلاعِ مواجَهةٍ أميركيّةٍ / إيرانيّة. لكنَّ «حسابَ» إسرائيل مع إيران مختلِفٌ عن حساباتِ الغرب معها، فعلاوةً على الاتفاقِ النوويّ، مشكلةُ إسرائيل هي التمدّدُ العسكريُّ الإيرانيّ في سوريا عمومًا وسائرِ دولِ المشرِق، بما فيها لبنان.

لذلك صَعّدت إسرائيلُ ضرباتـِها ضِدَّ هذا التمدّدِ في سوريا قبيْلَ انسحابِ ترامب من الاتفاقِ النوويِّ وبعدَه. وما لم تُعِدْ إيرانُ النظرَ ببُنيتِها العسكريّةِ في سوريا، سيتواصَلُ هذا التصعيدُ ويَتحوّلُ لاحقًا عنفًا مفتوحًا ومستقِرًّا يَشمُل لبنانَ برغم ِكلِّ التطميناتِ الـمُـعطاة.

كلُّ المسؤولين الدوليّين توقّعوا أن يَرفعَ الانسحابُ الأميركيُّ من الاتفاقِ النوويِّ من فُرصِ نشوبِ حرب. وأصلاً، ليس انسحابُ ترامب من هذا الاتفاقِ سوى توطِئة. فلو كان هدفُه تحسينَ الاتفاقِ ومراقبةَ الصواريخِ البالستية، لكان جرّبَ أوّلًا نهجَ الديبلوماسيّة، خصوصًا وأنَّ مفتّشي الوكالةِ الدوليّةِ للطاقةِ النوويّة، بمن فيهم مفتِّشون أميركيّون، أكدوا التزامَ إيران بالاتفاقِ وبوقفِ أنشطتِها النوويّة.

لكنه اختارَ الانسحابَ مباشرةً من الاتفاقِ لأنَّ هدفَه الحقيقيَّ ليس تعديلَ الاتفاقِ النوويِّ فقط، بل هو إسقاطُ النظام في طهران، والحدُّ من انتشارِ إيران (رفضت إيران التفاوض بشأنه أثناء إدارة أوباما).

ويَزداد القلقُ مع: انغلاقِ أفْقِ حلِّ القضيّةِ الفِلسطينيّة، نقلِ سفارةِ واشنطن إلى القُدس هذا الأسبوع، احتفالِ إسرائيل بذكرى تأسيسِها التاسعةِ والستّين، وتواصلِ العدوان على غزّة حيث التأثيرُ الإيراني. بمعنى آخَر، كلُّ مُغرَياتِ العنفِ موجودة بوَفرةٍ هذه الأيّام.

لذا نَشهد اليومَ إيرانَـيْـن: إيرانُ الإصلاحيّةُ ممثَّلةً بالرئيسِ روحاني تُفاوض الغربَ للحدِّ من العقوباتِ الاقتصاديّةِ وتطويقِ المشروع الأميركي، وإيرانُ المتشدِّدةُ ممثَّلةً بالحرسِ الثوريِّ وتنظيماتِه الإقليميّةِ تتواجَه مع إسرائيل لخلقِ واقعٍ جديدٍ في المشرق.

هذه الإزدواجيّةُ الإيرانيّة، والغربيّةُ أيضًا، ستَصل إلى حائطٍ مسدودٍ في المدى المنظور لأنَّ العقوباتِ الأميركيّةَ الجديدةَ على إيران تُشكّل عقبةً أمام الحوارِ مع الغرب، وستَدفع المتشدِّدين الإيرانيّين إلى التهديدِ باستئنافِ المشروعِ النوويِّ من جِهة، وإلى رفعِ المواجهةِ مع إسرائيل من جِهة أخرى.

لكنَّ الفارقَ بين التيّارين، المتشدّدِ والإصلاحيّ، يُصرَفُ في المجتمع الإيراني فقط، ولا سوقَ له في المجتمع ِالدوليِّ. أيّ أنهما يتصارعان على السلطةِ داخلَ إيران، من دون أن يختلفا فعليًّا على القضايا العربيّةِ والدوليّة. ومن كان يَشُك ُّفي ذلك جاءت تصاريحُ الرئيسين الإصلاحيين، الحالي روحاني، والسابقِ خاتمي، لتؤكّدَ وِحدةَ موقفِ التيّارين تجاهَ الأحداثِ الجارية. عَسى أن يَقتبِسَ الأطرافُ اللبنانيّون هذه الظاهرةَ فيختلفوا داخليًّا ويتوحَّدوا حيالَ الخارج.

لكن النظامَ الإيرانيَّ يبقى في مأزقٍ متعدِّدِ الأَوجُه، إذ يواجِه أكثرَ من خَصمٍ في وقتٍ واحد: إسرائيلُ في سوريا، أميركا في الاتفاقِ النوويّ، دولُ الخليجِ في تَمدُّدِه العربيّ، الغربُ عمومًا في سباقِه إلى التسلّحِ الباليستي، والمجتمعُ الإيرانيُّ المتحَفِّزُ للانتفاضةِ وسْطَ أزمةٍ اقتصاديّةٍ/ماليّة قاسية.

ومهما بلغَ الجَبروتُ الفارسيُّ، لا بدَّ لإيران في لحظةٍ معيّنة، حانَ حلولُها، من أنْ تعيدَ النظرَ في سياسةِ «التوسّعِ الدائريّ» من خلالِ استغلالِ قضايا الآخَرين (فِلسطين)، أو غَباءِ الآخَرين (العرب)، أو حروبِ الآخَرين (أميركا)، أو مآسي الآخَرين (العراق وسوريا واليمن)، أو انقسامِ الآخَرين (لبنان)؛ إذ ليس بمقدورِ إيران حمايةَ هذه السياسةِ طويلًا، لاسيّما أنَّ حلفاءَها مُلتبِسون وأعداءَها ثابتون.

يَكفي أنَ نراقبَ كيف روسيا، حليفَ إيران الأقرَب، نأت بنفسِها عن الغاراتِ الإسرائيليّة في سوريا لنتأكّدَ من ِعُزلةِ إيران في مواجهةِ المجتمعِ الدوليّ. إنَّ روسيا وإسرائيل في سوريا متّـفِقتان حولَ بقاءِ النظام ومختلفتان حولَ وجودِ إيران. لذلك، لا إسرائيل تُزعجُ التحرّكَ الروسيَّ الرامي إلى حمايةِ النظامِ السوريّ، ولا روسيا تُزعج إسرائيلَ في غاراتِها على القواعدِ العسكريّةِ الإيرانيّة في سوريا (حزبُ الله ضمنًا). إذن، يوجد خطّان لهذه العلاقة الثنائية: خطٌ أحمر هو النظامُ السوري، وخطٌ أخضر هو العسكرُ الإيراني. قِسمةُ حرب.

علاوةً على الساحةِ السوريّةِ وضواحيها، يُخشى أن تُوسِّعَ إسرائيلُ دائرةَ اعتداءاتِها فتَشُنُّ عمليّةً عسكريّةً خاطِفةً على الـمُفاعل النووي الإيرانيّ بغطاءٍ أميركيٍّ مباشَر. فَما حَظّره أوباما على نتنياهو سابقًا أباحَه ترامب اليوم. مثلُ هذه الضربةِ تشكّل التتمّةَ الطبيعيّةَ للانسحابِ الأميركيِّ من الاتفاقِ النوويّ والردَّ القاطعَ على الّذين تَخوّفوا من أنْ يؤدّيَ إلغاءُ الاتفاقِ إلى تحريرِ إيران من التزامِها بوقفِ مشروعِها النووي. وقد تُغني هذه الضربةُ ترامب عن وضعِ عقوباتٍ جديدةٍ على إيران فيُريح بذلك حلفاءَه الأوروبيّين والآسيويّين.

أما في لبنان، أنَّ حزبَ الله، منذ صدورِ نتائج الانتخاباتِ النيابيّة (07/05/2018)، يَتصرّف في المناطقِ اللبنانيّة غيرِ الخاضِعةِ لسيطرتِه مثلما تَتصرّفُ إيران في الدول المشرقيّة، وهو تصرّفٌ تَحاشاه حتى الآن. لم يُثنِه «تفاهمُ مار مخايل» ولا الشراكةُ الوطنيّة. كأنَّ مرحلةً جديدةً بدأت، عنوانُها: السيطرةُ على لبنان أصالةً ووكالةً.

ورغم ذلك، لم نرَ ردًّا بمستوى هذا التطوّرِ لا من المرجِعيّات الدستوريّةِ (رئاستا الجمهوريّةِ والحكومة)، ولا من المرجِعيّات الأمنيّةِ (جيشُ وقِوى أمن داخلي)، ولا من المرجِعيّات السياسيّةِ (أحزابٌ ونوابٌ وزعماء). نرى حزبَ الله يُهدّدُ إسرائيل ويُنفّذُ في لبنان: فعوِضَ أنْ يَقصِفَ الجليلَ والمستوطناتِ الإسرائيليّةَ، وجَّه دَرَّجاتِه الناريّةَ، بل العسكريّة، نحو بيروت وبعبدا والمتن… اللهم إلّا إذا كانت عمليةُ تمويهٍ قبلَ اقتحامِ القدس.

وبكلِّ صُدق، لبنان يحتاجُ حزبَ الله بشراكةٍ جديدة، والشرقُ الأوسطُ يحتاج إيرانَ باستراتيجيّة مختلِفةٍ. فهل مَن يَسمعُ فيستجيب قبلَ أن يكونَ قد قُضِيَ الأمر؟