“صديقي عندي خلفية قد تكون فريدة أعتقد أن الاطّلاع عليها قد يهمُّك، خصوصاً بعد تناولك في صورة منتظمة في “الموقف هذا النهار” روسيا وعلاقتها الصراعية مع أميركا وسياستها السورية والإيرانية، ودوافعها التي تبدأ بالمصالح الحيوية والاستراتيجية وتنتهي بالدفاع عن مسيحيي الشرق وخصوصاً الأرثوذكس منهم. وهو عملياً دفاع عن المسيحيين الروس، وهم أرثوذكس، الذين يشكّلون اليوم غالبية الشعب البالغ عدده 144 مليون نسمة، والذين يواجهون ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي تهديداً من مواطنيهم المسلمين، تعاظم في السنوات الأخيرة جرّاء تحوُّل الكثير من هؤلاء إسلاميين متشددين حاقدين على الدولة الروسية التي تحكمهم بل تسيطر عليهم من زمان، والتي تدافع وبشراسة عن النظام الذي يقتل إخوانهم في سوريا وعن إيران الإسلامية الشيعية حامية هذا النظام وحلفائه في المنطقة”.
“أنا أميركي من أصل عربي هاجرتُ من بلادي قبل نحو خمسة أو ستة عقود. والدي كان أرثوذكسياً وأمي “بروتستانتية”. كان مؤمناً وفي الوقت نفسه متسامحاً وغير ممارس. كان يصرّ على اصطحابي إلى كنيسة مار جريس الأرثوذكسية مرتين في السنة في عيد الميلاد وعيد الفصح. وفي باقي الأيام والأعياد كنا أحراراً في مرافقة والدتي إلى “القداديس” البروتستانتية. لكن أعمامي وأبناء أعمام والدي لم يكونوا بتسامحه. كلهم كانوا متعلمين ومثقفين وغالبيتهم كانت مؤيدة للأميركيين أو للبريطانيين. لم يكن أي منهم مع فرنسا وتركوها للموارنة. في أثناء مراهقتي ثم شبابي كنت أسمع أعمامي يؤكدون دائماً أن “روسيا الأم” هي التي ستحمي الأرثوذكس في بلادهم. أتذكّر يوماً نقاشاً حامياً بين والدي وأحد إخوته بدأ بعد سؤاله أخيه: كيف يمكن أن تعلِّق على حائط واحد في مكتبك صورة ستالين الزعيم الروسي الشيوعي، وصورة روزفلت الرئيس الأميركي؟ كان عمّي يعرف الاختلافات الجذرية والعميقة بين روسيا وأميركا، لكنه بقي على اقتناعه بأن “الأم روسيا” ستحمي الأرثوذكس. وهذا الاقتناع عكس ضمناً أو علانية ومنذ العقود الستة التي أتحدّث عنها أو قبلها عدم اطمئنان الأرثوذكس ومعهم المسيحيين الآخرين وكلهم أقليات إلى مستقبلهم في شرق مُسلِم”.
“في اثناء دراستي الجامعية ولاحقاً في عملي، وكان العالم يعيش في حينه ما عرف بـ”الحرب الباردة” اشتركت في دراسات معمقة تناولت الأقليات في روسيا وطريقة توظيف هذه “الظاهرة” إذا ما تطوَّرت الحرب المشار إليها سلباً. معظم هذه الأقليات كانت ولا تزال تنتمي إلى الإسلام السنّي الذي تنتمي إليه غالبية الشعوب المسلمة في المنطقة. و”القيصر” الحالي فلاديمير بوتين يعرف هذه الحقيقة من زمان، لكنها تقلقه كثيراً اليوم”.
هذه الرسالة الإلكترونية تلقيتها من صديق أميركي عتيق مطّلع عاش تجربة غنية ومتشعبة في وطنه الجديد الذي وصل إليه قبل نحو ستين سنة، تابع في أثنائها العلاقة بين واشنطن وموسكو وتطوّرها وأوضاع الشرق الأوسط وخصوصاً العربي منه وكانت له أدوار مهمة أحياناً كثيرة. ودافعه إلى توجيهها إليّ كان “المواقف” عن روسيا التي كثر عددها تدريجاً بعدما نجحت في العودة لاعباً شرق أوسطي مهمَّاً يوم قرّرت الاستمرار في تحدّي الولايات المتحدة في أكثر من منطقة في العالم. إلا أن الدافع الآخر لتوجيهها كان من شقّين. الأول التأكيد أن بلاده لم تقرِّر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الإجهاز على وريثته روسيا وتحويلها من دولة عظمى إلى دولة عادية. والثاني التأكيد أن موقفها الصراعي الحالي مع أميركا وحلفائها في الشرق الأوسط اليوم له، إلى أسبابه الكثيرة، سبب أولوي ومهمّ هو الدفاع عن استقرار روسيا وأمنها ضد الإرهاب الإسلامي الأصولي المتطرِّف حتى العنف والتكفير الذي له بيئات حاضنة مسلمة في روسيا، والذي ينمو في سرعة جرّاء أحداث سوريا والعراق واليمن وليبيا. والدفاع المجدي عن روسيا يجب أن يبدأ من هذه الدول تلافياً لاستفحاله داخلها. فالمقاتلون الأجانب الأعضاء في “داعش” الذين يقاتلون في سوريا والعراق تجاوز عددهم الثلاثين ألفاً. قسم منهم ترك ما يعتبره “جحيم” الحياة غير الإسلامية في دول عربية وإسلامية وانضم إلى الجهاد فيهما، وقسم آخر أتى من “نعيم” الغرب أي روسيا وأوروبا وأميركا لاعتباره إياه جحيماً إسلامياً لإقامة حكم الإسلام في هاتين الدولتين. وهدفهم الأكبر العودة إلى بلدانهم لإقامة دولة الخلافة فيها أو حكم الشريعة.
كيف يرى المتابع الأميركي المزمن الصديق نفسه العلاقة الروسية – الأميركية وأسباب برودها ثم توتّرها؟