IMLebanon

نجمُ الحفلَين

كيف يمكن أن نسمّي ما جرى في هذه الأيام الأخيرة؟ وكيف يمكن أن نفسّر ما جرى يوم الأربعاء، في 22 تشرين الثاني، الذي حضن احتفالَين: عيد الاستقلال، والاحتفال التقليدي به، ثم المشهد الملحمي الذي انفجر بالناس من كل المناطق والطوائف، في بيت الوسط، ترحيباً بعودة الرئيس الحريري، بعد التباسات، قدم فيها استقالته من الحكومة.

كأن البداية كانت مجموعة أحداث مفاجئة، صادمة، أجفلت كل اللبنانيين، الذين شعروا فجأة، أنهم وحدهم نهبٌ لمصائر مجهولة، تذكّرهم بسنوات الخوف الميليشيوية، والدمار، والخراب، والتهجير، وسقوط الدولة، بكل ما فيها، من اقتصاد، وحُماة، وأحزاب، واستقرار: سعد الحريري استقال! صمام الأمان ضاع بين ركام الكلام، باب الأمل أُغلق، فشعر كل لبناني بالاختناق. التساؤلات بدت مهيبة للمرّة الأولى: ماذا بعد؟ وماذا بعد، تعني هنا، ما لا تُحمد عقباه. وتربعت الغربان في الأقبية، من هنا وهناك، وطلعت صور يوضاس يقبّل المسيح في العشاء الأخير، وهو يسلّمه للجنود: الخيانات الصغيرة يصبح مفعولها أكبر من أشخاصها. الريبة، انتصرت! الشك تسيّد! ماذا؟ أيقدم الحريري استقالته وهو في الخارج. فيا لترويع المشهد. راحت النفوس، والجموع، تضرب أرباعاً بأخماس. إنها النهاية. نهاية مرحلة وانفتاح أخرى يخافون ذكرها (تنذكر ما تنعاد). سعد الحريري يظهر على التلفزيون بوجه تعبق فيه غيوم غامضة، على غير عادة ظهوره أمام الناس، بوجه بشوش، متفائل، مليء بالثقة والحيوية. كأنها صورة لبنان كلها، ارتسمت بهذه القسمات التي توحي ما توحي من أمور نذائر. ثم الدمعة. هذا الوجه المضيء يغصّ بدمعة، أدمعة واحدة لكل معاناته، وأشكال قلقه، وشعوره بالغدر. أدمعة واحدة لكل هذه الأحوال؟ لكل هذه الانتظارات؟ لكل هذه المخاطر؟ دمعة واحدة قطرت في غصّة لدى ذكره لبنان، كأنها أسالت دموعاً كُفكفت من زمان. بل كأن الدموع التي غص بها كل مَن شاهد الحريري على التلفزيون، تتحوّل فضاء من التماهي، والتعاطف، والأصوات، والكتابات، والصراخ. أيبكي لبنان مرة واحدة كلّه! أيصرخ لبنان الصرخة الذائبة في الهواء، والشوارع، والسهول، والمدن، والبيوت: تحوّلت الدمعة تمرّداً. عواصف من الغضب. دمعة. ثم استقالة. ثم وعد بالمجيء إلى بيروت… ثم ماذا؟ احتدمت في الدواخل، المشاعر والأفكار، والأسئلة، والأجوبة، والمخاوف. أيتركنا سعد؟ هنا اللوعة. وماذا عن لبنان يا سعد؟ وماذا عنّا؟ وماذا عن مصيرنا؟ وماذا عنك أنت بالذات؟ تماهت النفوس، والكلمات، بصورة الحريري. تماهت كلها مئات الألوف، «تظاهروا» على وسائط الإعلام كلها. كأنها التظاهرات غير المرئية. وراء الشاشات، وراء الجدران، وراء الوجوه، وراء الأجساد. هناك، وعلى الشوارع، والشرفات، والرسائل الكثيرة، وأحاديث المقاهي، والأرصفة، وفي الجبال، وفي السهول… صوت ما زال صامتاً: نريد سعد الحريري! فالظلمة عميمة، و«في الليلة الظلماء يفتقد البدر». احتقنت الكلمات في النفوس… حيرى، سائبة، يتيمة لكن ببوصلة واحدة. الضيق الخانق، كل هذا، كأنه كان انتظارات، وتوقعات، واستدراكات. بداية من وراء الشاشة من خارج البلاد هزّت أعماق بلاد الأرز، ثم مشهد من وراء الشاشة ألهب الناس… البدايات المقلقة. الأجوبة الصمّاء. القلق المشحون.

] روايات الناس

كأنها من روايات الناس: البدايات الغامضة، المُجفلة، النكراء، والعقدة المفقودة: رئيس حكومة يعلن استقالته من الخارج! كأنه بدا من نثريات الأمكنة، والسياسة. ثم التفاعلات؟ ثم التوقعات. ثم الضياع، فالحيرة: كيف ستنتهي هذه القصة؟ وبطلها غائب. بطلها الوحيد. بطلها بروميثاوس يعاقب على أعماله: على منح الاستقرار، والأمن، والأمل، ومعالجة جروح البلد. لكن لم تحتقن نفوس اللبنانيين، فقط، بل العالم: خافوا على الوطن الصغير، وأحد حُماته الكبار: من أميركا إلى فرنسا إلى ألمانيا، إلى مصر، إلى الجامعة العربية… هذا الوطن الصغير اهتزّ باستقالة رجل السلم الأهلي، ورجل التسويات، ورجل الحوار: من الداخل عواصف تنتظر، وفي الخارج حُمّى اتصالات ولقاءات ومواقف…

] نهاية سعيدة

لم تهدأ النفوس. فالبدايات وإشكالياتها قد لا تبشّر بنهاية سعيدة. لكن، الحريري، رجل الحياة. رجل التجدّد. لا يمكن، أن يتخلى عنه من «أخلصوا للبنان»… ولدوره. وكان أن بدأت تشاؤمات البدايات، تنفرج. الحريري سيخرج من المملكة العربية السعودية، إلى فرنسا، آه! الانتظارات صارت أكبر. ماذا سيفعل في فرنسا؟ ذهب إلى هناك. وعومل كما يُعامَل الكبار، وماكرون هذا الرئيس الاستثنائي، الذي واجه قبله إحباطات غربان فرنسا، والأفكار الانحطاطية، والنهايات، حيّا الرئيس الاستثنائي، الذي واجه إحباطات غربان لبنان، والتشاؤميات، والانحطاط،… استثناءان فتيّان، التقيا في عاصمة – باريس التي دائماً كان محطّ اللبنانيين، كأن ماكرون تماهى بالرئيس جاك شيراك، وسعد تماهى بوالده الشهيد رفيق الحريري. التاريخ يُعيد نفسه أحياناً، بالطريقة المبدعة، والحيّة. ومن فرنسا طار إلى مصر. ومن مصر إلى قبرص. ثم إلى «محجّته» و«قِبلته» بيروت.

ما احتقن في النفوس، وملأ العيون والشاشات وأحاديث الناس، ومن فرط حبّهم للحريري، وتقديرهم لدوره الإنقاذي، الوطني اللبناني، (عابر الطوائف)، بدت عودته أكبر من أن «تكون حقيقية»! يريدون أن يتأكدوا متلهفين. أن يروه نازلاً من الطائرة.. أن يتحسّسوا حضوره. العائد عاد حقاً! وكأن نهاية بدت سعيدة، في ظاهرها، لكنها ستتفجر كملحمة شعبية في بيت الوسط. ولا ينتظرون سوى تسليم أوراق استسلامه. «انتهى شعبياً»! وسياسياً، في بيئته، وخارجها. حتى في محيطه. اوغروا صدور حلفائه التاريخيين: «سعد الحريري سلّم لبنان لحزب الله»، «سعد الحريري عاجز عن الحكم»، «سعد الحريري فَقَدَ شعبيته»، «سعد الحريري أعلن إفلاسه السياسي»..

] غربان الحرب

هؤلاء، غربان الحروب المدمرة، الذين تبادلوا الغدر في ما بينهم، كأنهم اجتمعوا على الغدر بالحريري، والحفر له، بخبث، تمهيداً «لاستبداله». كأنه بيدق! أو كبش! أو كأن الشعب اللبناني قطيع من الماشية، يحركها «الراعي بعصاه»… وهنا بدأ دور الناس (حتى بعض الذين صدّقوا إفرازات كرههم وحسدهم وقلّة وفائهم)، ليطرحوا على أنفسهم أسئلة ذاتية «هل انتهى سعد الحريري كما يقولون، هل قدّم أوراقه لحزب الله». هل فشل بتطبيق سياسة النأي بالنفس، وإعلان بعبدا، والطائف..؟ هل باعها كلها مقابل أثمان أو مكافآت؟ تساءلوا. ثم راحوا يستعرضون كلام هؤلاء «الوُشاة»، وأبوام البلد، وتجار الخردة السياسية، ليقعوا على تواريخهم، وأشكال غدرهم ببعضهم، وإلغاء بعضهم البعض.. للسيطرة، والاستبداد، والفساد والعمالة… لا بدّ من «لغز» لكل هذه القضايا… لكن حله، على صعوبته قائم بالتشكيك بهؤلاء، وبدسائسهم الوضيعة، إنهم «بضاعة ما بعد الحقيقة» أو «fake News»، وليكتشفوا أن ما يدّعيه كتبة التقارير والجواسيس لا ينطبق على الواقع: فالأوضاع تحسّنت في قطاعات عدّة. والجيش، للمرّة الأولى (بعد نهر البارد) يحقّق انتصاراً جَمَعَ اللبنانيين حوله، ما عدا «حزب الله»، فحاولوا قرصنة انتصاره ومصادرته، ثم حاولوا تشويه سمعة الجيش، وإذلاله، عبر إبرام صفقة مع مسلحي «داعش»، واستفردوا بتسلمهم، دون الجيش، وشحنوهم ببوسطات مكيّفة.. إلى سوريا! اشاع هؤلاء «الصبية» الأبديون، أن الحريري قدّم تنازلات: هنأوا الجيش وهاجموا الحريري! طيب! ماذا يريدون؟ لا شيء! هل يريدون أن يفتح الحريري حرباً أهلية في لبنان؟ لا! ربما! ولكنهم يطالبونه بذلك، وإذا وقعت حرب أهلية طائفية، هل سيسترد لبنان استقلاله، أيها البغاة؟ وهل سيبقى حجر على حجر؟ وهل ستبقى دولة؟ وهل يتكل الحريري عليهم، في هذا القرار لتحرير لبنان من حزب الله؟ لكن هؤلاء «الأبطال» ماذا فعلوا لدى غزو «حزب الله» بيروت والجبل؟ أين كانوا؟ لماذا لم يتدخّلوا ببسالتهم، وخبراتهم القديمة بالقتال. وبفتيانهم! سعد الحريري، يعرف كل هذه الأمور. وإذا أقدم على نوع من هذه القرارات، فسيكون وحده في الساحة. أما أهل الدسائس فسيتوارون عن الأنظار، ويطبّلون ويزمّرون من وراء جدرانهم المغلقة.

] الشريط السينمائي

عندها، بالذات، وفي هذه المراجعة الشعبية التي تشبه شريطاً سينمائياً، كشف الجموع فداحة المؤامرة على الحريري. كشفوا فظاعة أن يتركوه وحده: سعد ابن رفيق الحريري. سعد ذو الشعار الوطني الكبير «لبنان أولاً، لبنان أولاً»… فجّرت اطلالة سعد من سلم الطائرة (مبتسماً أخيراً، منقشعة قسماته أخيراً)، كل هذه الاحتدامات في نفوس أهليه اللبنانيين كلهم، محبيه. الخائفين على لبنان أن يلقى مصير ما يحدث في الجوار القريب والبعيد. هؤلاء الضنينون به. الأوفياء «علّموا العالم الوفاء» فلبّوا النداء بعشرات الألوف إلى بيت الاعتدال. إلى بيت الانفتاح. إلى بيت التنوير في الوسط. إنه بيتهم. وسيّده حبيبهم، تعرّض للطعن في الظهر، فلبيك ألف لبيك. وألف أهلاً. وألف مرحباً.. بدأت الأمور بقصة، وها هي تتحوّل ملحمة شعبية تتدفّق كالطوفان الجميل، من كل مكان، من الجنوب، إلى الشمال، إلى الجبل، إلى البقاع، وعكار، والضنية، وطرابلس وبيروت. ما هذا الخلق؟ كيف عرف طريق المحجّة، بأحداسه، وقلوبه، وعقوله، ومشاعره، ووطنيته، وسلميته… الألوان الزرقاء ازدحمت تخفق في الهواء وفي النفوس وفوق الرؤوس. «كلنا سعد»! «أنت نحن ونحن أنت»، «يا رجل الوفاء جاءك أوفياؤك»، «وليسقط الغادرون». عندها بالذات كان مشهدان لم يجتمعا من قبل في الوطن الصغير: الاحتفال بالاستقلال، وعرض عسكري جميل، والثلاثي الرئاسي: عون، برّي، والحريري، على المنصّة. الرؤساء الثلاثة منفرجو الأسارير.

المشهد الثاني، الذي هتف له الجمهور المتزاحم، المتدافع في بيت الوسط «تريّث الحريري بالاستقالة بعد تمنّي الرئيس عون بذلك». هنا العودة عودتان: في مشهد الاحتفال باستعراض الجيش، ومشهد الاحتفال بالعودة الأخرى للحريري للمشاركة في إدارة البلد، ومعالجة أسباب استقالته، المحقّة: الاتفاق هذه المرّة على النأي بالنفس حقيقي، ومادي، وملموس عن تدخّلات «حزب الله» في الحروب الجارية بين إيران والعرب: من سوريا، إلى اليمن، إلى العراق… إنها المعالجة بالحوار. وقد صرخها كل المسؤولين العرب والأجانب «فليتم كل ذلك بالحوار، للحفاظ على الاستقرار». جعلوا كلهم «الاستقرار خطّاً أحمر»، يحمونه، ويعملون في الوقت ذاته على توفير شروطه…

الغريب في الأمر، أن كل الزعماء الأجانب، من أميركا إلى أوروبا، إلى مصر، (وحتى قبرص الصغيرة)، وربما إلى الصين، وحتى روسيا، يتمنون الاستقرار للبنان ليلعب دوره العربي (كعربي قُحْ)، ودوره الأكبر، الثقافي والحضاري، والتعدّدي، والنموذجي، إلاّ بعض اللبنانيين «ذوي القربى» و«الأصحاب»، فهم يريدون، بنفوسهم المريضة، الشيزوفرانية، أن يلعب الحريري لعبة الحرب الأهلية، والعنف، لضرب كل المكتسبات والأمن، وسلامة البلد والناس! إنهم «يوضاسات» هذا الزمن. لكن ماذا تراهم حصدوا؟ ما زرعوا. زرعوا الريبة، والغدر، والكذب، والشعبوية، لإسقاط الحريري، فجاءت محاولاتهم عكسية: تنهّدت جماهير الحريري، وتمطّت، ثم قفزت بكل قوّتها، إلى بيت الوسط. إنه الانتصار الشعبي السلمي الكبير للحريري. انتصار جماهير «لبنان أولاً»، و«لا للفتنة الطائفية»، و«لا للعنف»، و«لا لتدمير البلد»، و«نعم» بحجم لبنان لمُجسّد هذه الأفكار، والمواقف سعد الحريري. «كلنا معك». ومن شرفته، بعد أن خلع البدلة الرسمية، وارتدى «سبور أزرق»، حيّاهم! آه! من هذه اللحظة، التي لم نشهدها إلاّ في «مليونية ثورة الأرز». ثم، جاءهم: وألقى فيهم كلمة وطنية، طالعة من القلب وتوجّه إلى «يوضاسات» البلد «شوفوا… اسمعوا…» كأنه يذكّرهم بخسّتهم، ودسائسهم وقلّة وفائهم «علّمتم العالم الوفاء»! لكن ممَن تعلم هؤلاء الغربان الوفاء! فالغدرُ من «شيمهم»!

ها هو الحريري بين عشرات الألوف، جمهوره جمهور لبنان أولاً وأخيراً… جمهور الديموقراطية أولاً. جمهور السيادة أولاً. جمهور السلم الأهلي أولاً. جمهور العروبة أولاً… جمهور الانفتاح على الحضارات والعالم أولاً!… إنه جمهور المستقبل، لرجل المستقبل!