أتحفتنا غرائب الواقع السياسي اللبناني بآخر نماذجها في تسوية الجلسة التشريعية التي اعادت احتواء انزلاق الى احتدام طائفي، الأمر الذي يسلط الضوء على بعض الوقائع الجديدة التي ستعقب تمرير هذا القطوع. لم يعد هناك من موجب لتوزيع الأنصاب أو المكاسب السياسية سواء كانت آنية ام مستدامة ما دامت التسوية لم تختلف في عمقها عن قاعدة اعادة الاعتبار الى التوازن الطائفي طريقاً الزامياً لأي تسوية. الأهم من هذا الترف التقليدي هو ان لبنان “لا يزال” ممنوعاً من الانفجار، مما يحصر أي اشتباك داخلي مهما ارتفعت حدة تصعيده في شباك الخطوط الحمر التي تحكم لبنان منذ اندلاع الحرب في سوريا. لم يكن ادل على ذلك من عوامل متلازمة بدلالاتها حملت تحريكاً لمشهد داخلي يتهدده الاستنقاع والاهتراء. أولها انه على رغم الطابع الخطر لاستحضار الطابع الطائفي على يد الثنائي العوني – القواتي، برزت في مكان ما ملامح “حفاوة” ضمنية داخلية وخارجية “بيقظة” مسيحية من هذا النوع للمرة الأولى منذ اكثر من عقد ولو على سبيل اعادة الاعتبار للمكون المسيحي اللبناني وسط فراغ موقعه الدستوري الأول فيما يفرغ الشرق من الأقليات. بطبيعة الحال سترتب هذه اليقظة مساءلة اكبر على القوى المسيحية في ملفي الانتخابات الرئاسية وقانون الانتخابات ولكنها في سياق الاستقطاب الاقليمي الذي يحكم حلفاء المسيحيين وفرت لتلك القوى فرصة الظهور المتفلّت من الرعايات الاقليمية ولو انها بالغت في التعبئة الطائفية. ثاني هذه العوامل يتمثل “بعودة” الرئيس سعد الحريري الى ساحة التأثير القوي كما لو انه وضع حداً حاسماً لكل ما اثير من غبار حول تراجع الزعامة الحريرية، ولعل هذه العودة من باب الدور المحوري في التسوية كانت أفضل ما كان يمكن الحريري ان يبادر اليه في لحظة اختناق لبنانية. أما ثالث هذه العوامل فكان التقاطع الموضوعي بين الزعامة الحريرية وزعامة “حزب الله” على تجاوز قطوع كان ينبئ بالدفع نحو فائض من التوترات ولو اختلف التعبير بين الزعامتين عن تداعياته. ذلك انه يصعب تجاهل دلالات طرح السيد حسن نصرالله حول التسوية الشاملة مقروناً بحرصه اللافت على تبديد أي احتمال جديد لـ٧ أيار آخر ولو انه سارع أيضاً الى طمأنة حليفه العماد عون الى بقائه مرشح الحزب المطروح على بساط التسوية مع الآخرين.
في مجمل هذه الواقعة، أعيد الاعتبار الى منطق التسويات القسرية التي وإن كانت لا تضمن عدم تفريخ أزمات لاحقة ما دام العجز عن ترجمتها الى انتخاب رئيس مستمراً، فإنها تظلل واقع لبنان الواقف دوماً عند منتصف خطوط التماس الاقليمية وحرائقها بنصف مقاومة للالتحاق بها ونصف استسلام لتداعياتها، بلا أوهام مضخّمة.