في زمن التحولات الكبرى، غالباً ما يأخذ النقاش العام منحى سورياليا وتتوسع مخيلة البعض لتصل الى حدّ الجزم بتفكيك الدول وإعادة تركيبها وتصوّر سيناريوهات تلامس الانهيار الشامل.
المرة الأولى والأخيرة التي شهدت فيها المنطقة نشوء دول جديدة، دفعة واحدة، جاءت بعد حدثين مفصليين: الحرب العالمية الأولى وسقوط السلطنة العثمانية. الحدث الأول بدّل موازين القوى الإقليمية والدولية والثاني أنهى أربعة قرون من الحكم العثماني. دولة أخرى نشأت في ظروف تاريخية مغايرة بعد الحرب العالمية الثانية: إسرائيل التي نالت اعتراف الدول الكبرى بالتزامن مع حرب 1948. مشروع الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين لم يرَ النور في 1947، وجاء التقسيم القسري بعد النكبة اسوأ من المشروع الأممي لجهة المساحة الأوسع التي وقعت تحت السيطرة الإسرائيلية.
في زمن الحرب الباردة لم تنشأ دول جديدة. وبعد انتهائها وانهيار المنظومة السوفياتية في أوروبا الشرقية برزت دول جديدة بدعم دولي على انقاض يوغوسلافيا التي جمعت الأضداد في دولة تأسست بعد الحرب العالمية الأولى. ولم تنشأ دول جديدة في العالم العربي في زمن الحرب الباردة وبعدها، باستثناء جمهورية جنوب السودان في 2011 بدعم اميركي وفي ظروف غير مرتبطة بأي حدث مفصلي يتجاوز الوضع السوداني المأزوم.
في مراحل سابقة، العراق ولبنان كانا الأكثر جهوزية ﻠ «لتقسيم»، بحسب التعبير الشائع. وهذا لم يحصل، على رغم أنه كان باستطاعة الولايات المتحدة، صاحبة النفوذ الحاسم في العراق بعد 2003، أن تُقيم كيانات لدول في العراق بدل النظام الفدرالي. ولم يكن «التقسيم» متاحاً في لبنان في زمن الحرب لأسباب عديدة، داخلية وخارجية. وفي الحالتين العراقية واللبنانية، لم يكن ثمة مصلحة للدول الكبرى والدول المؤثرة إقليمياً أن تنشأ دول جديدة.
هل الأوضاع مختلفة اليوم، بعد «الربيع العربي» والحروب والاضطرابات التي تلته؟ ومَن مِن الدول الكبرى ودول المنطقة النافذة له مصلحة في قيام دول جديدة؟
الحالتان الأكثر «جهوزية» واقعياً في المرحلة الراهنة هما سوريا وليبيا. «تقسيم» سوريا دولاً أو دويلات يلقى معارضة من النظام وأطراف المعارضة، إضافة الى دول المنطقة والدول الكبرى. وكيف يمكن إدارة المرحلة الانتقالية وضمان النتيجة المتوخاة؟ وحدهم الأكراد يحبّذون قيام نظام فدرالي أو دولة مستقلة في سوريا والعراق، إلا أن جيرانهم في المحيط الجغرافي المباشر، لا سيما تركيا، يقفون بالمرصاد بوجه الطموحات الكردية. كذلك، من له مصلحة بتقسيم ليبيا، الممّزقة سياسياً وجغرافياً وعشائرياً؟ الفوضى الليبية وصلت الى أوروبا في ظل مشروع الدولة الواحدة، وكم بالحري مع دويلات متناحرة على السلطة والدين والنفط.
قيام دول مستقلة بالمعنى المتعارف عليه اليوم يتطلب اعترافاً دولياً، ومن مجلس الأمن تحديداً. الحالة الأكثر دلالة هي قبرص التركية التي لا تعترف بها أي دولة سوى تركيا منذ إعلان استقلالها في 1983. بكلام آخر، ليس بإمكان أي جماعة أن «تفبرك» دولة قابلة للحياة بلا دعم دولي وإقليمي بالحدّ الأدنى. لعبة الأمم أو الدول ليست لعبة «Lego».
قد يستحضر البعض اتفاقية سايكس ـ بيكو في 1916 ليتوهم أن الدول الكبرى في 2016 بصدد إنشاء دول جديدة في المنطقة. في الوقائع، سايكس وزميله بيكو لم يُنشئا دولاً بل رسما خرائط نفوذ لمرحلة ما بعد الحرب الكونية لاقتسام التركة العثمانية. ولم يجزِّئا دولة أو دولاً لم تكن قائمة في الأساس. قيام الدول الحديثة في المنطقة أخذ مساراً مختلفاً وجاء نتيجة تقاطع مصالح محلية وأخرى مرتبطة بالسياسة البريطانية أو الفرنسية في عشرينيات القرن الماضي. وحتى سياسات الدول الكبرى شهدت تحولاً بعد انتهاء الحرب ومؤتمر السلام في باريس، مع طروحات الرئيس الأميركي ويلسن، أهمها حق الشعوب في تقرير المصير.
بعد قرن على اتفاقية سايكس ـ بيكو، تغيرت المنطقة ومعها الدول الكبرى وسياساتها. العالم العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين ليس بقعة جغرافية برسم الفرز والضمّ، وكأنه منطقة خالية من السكان والمصالح والانتماءات، بل هو دول ومجتمعات وثروات وروابط عصبوية ومناطقية وسواها.
لن تنشأ دول جديدة في المنطقة من باب إيجاد حلول للنزاعات داخل الدول وفي ما بينها. كما أن كلفة «التقسيم» بالنسبة إلى الدول الكبرى تفوق كلفة الإبقاء على الحدود القائمة والمكوّنات داخلها مع تعديلات في معادلة السلطة وطريقة ممارستها، بدل هدم البنيان بالكامل. التجربة العراقية والفوضى التي أفرزتها لا تزال «حيّة ترزق».