IMLebanon

سلوك دولة داخل قفص

 

تستميت إيران في جر السعودية إلى مواجهتها مباشرة بعد إحكام العقوبات المفروضة عليها. لعل ذلك يدفع دول العالم إلى التدخل ومنع المواجهة بشروط تعتقد إيران أن باستطاعتها التحكم بها. حاولت ذلك عندما قامت بتفجير ناقلتين للنفط السعودي في الخليج ومحاولة تعطيل محطة عفيف النفطية وسط المملكة. وتكرر ذلك أخيراً، وربما لن يكون آخراً، عبر ميليشيات الحوثيين من خلال استهداف مطار أبها الدولي السعودي بصاروخ. غير أن المملكة لن تقدم على ذلك بحكم أهميتها العالمية من جهة، كما أنها لن تقدم من جهة أخرى على أي خطوة قد تؤدي في النهاية إلى تخفيف هذه العقوبات الصارمة المفروضة على طهران منذ عام.

 

 

نعم، إن ما يسمى بالجمهورية الإسلامية التي ملأت الدنيا ضجيجاً قبل أربعة عقود، تعيش اليوم في ما يشبه القفص المحكم إغلاقه، لم تنجح دولة الخميني في النهاية إلا في تخلف هذا البلد وهجرة العقول الذكية منه وسحبه إلى الوراء، حتى وصل معدل الفقر لديهم إلى نصف عدد السكان مع تدني دخل الفرد العامل إلى نسب مرعبة. وتشير إحصاءات مستقلة إلى أن معدلات دخل الفرد الإيراني العامل لا توجد حتى في أفقر دول أفريقيا أو بعض جمهوريات أميركا الجنوبية الفقيرة الغارقة في تجارة المخدرات تحت سيطرة عصابات أقلية تتحكم في مفاصل تلك البلدان. ما الفرق حقيقة بين تلك الجمهوريات وبين إيران التي يديرها “الحرس الثوري” المصنف بالإرهاب؟

 

أثناء كتابة هذه المقالة تطالعنا الأخبار بتعرض ناقلتي نفط مجدداً في بحر عمان لعمليات تخريبية. ولا نعلم، فربما أنها تحمل نفطاً من المملكة. تبع ذلك إعلان الجيش الأميركي عن تسجيلات صوتية تثبت تورط إيران في هذين التفجيرين. هل هناك مفاجأة في كل ما يحدث في هذا المشهد أخيراً؟ ألم يكن ذلك متوقعاً بعد تمزيق أوراق “الاتفاق النووي” قبل عام وفضح سلوك هذه الدولة المارقة؟! هل يتوقع أحد منا أن العصابات المتحكمة في إيران، والتي تم تصنيفها كمؤسسات إرهابية، ستلتزم الصمت بعد أن أوقفت دعمها المالي لميليشيا “حزب الله” في لبنان وبعد استمرار قصف مواقعها في سورية ثم تستسلم للسقوط بهدوء وتتوارى عن الأنظار؟ بالتأكيد لم يكن ذلك وارداً. ستفعل إيران كل ما يمكن فعله من دون مهاجمة القطع البحرية الأميركية مباشرة.

 

قد يتساءل بعض العقلاء: لماذا لا تحاول حكومة إيران الجلوس مباشرة مع الولايات المتحدة والتفاوض مجدداً حول برنامجها النووي؟ ببساطة هذا غير وارد، إذ إن الجلوس على طاولة المفاوضات هذه المرة سيجردها من دعم أذرعتها في سورية والعراق ولبنان واليمن، فضلاً عن الحاجة لتفكيك “الحرس الثوري”. الإدارة الأميركية، بل وحتى معظم الدول الأوروبية التي وقعت على الاتفاق النووي قبل أعوام عدة، أدركت اليوم أن ذلك “الاتفاق” كان خطأً برمته. العالم كله يدرك اليوم أن طموح هؤلاء أخطر بكثير مما كان العالم يتصوره أو يسمعه من الوفد الإيراني.

 

هناك احتمال آخر قد يشكل قناعة لدى الإيرانيين وربما تفسيراً لما يحدث، وهو أنهم بهذا الاستعراض لأسلحتهم الصاروخية والبحرية يريدون إقناع الدول العظمى بأنهم أقوياء ولا يمكن مواجهتهم. وإن كان هذا الوهم يشكل كارثة كبيرة لدى هذه “الجمهورية” حاضراً مستقبلاً، فهو احتمال وارد خصوصاً وإيران ومنذ انتهاء الحرب مع العراق لم تدخل مباشرة في أي حرب، ناهيك عن دخولها في مواجهة مع أقوى قوة عسكرية في العالم. ما قد يدعم فرضية هذا الاحتمال هو تصرف إيران في المنطقة في العقدين الأخيرين، حيث الرغبة الواضحة في التوسع والانتشار. من سوء الحظ أن هذه العقول تفكر من دون إدراك أن هذه المنطقة تعتبر الأولى عالمياً من جهة أهميتها الاقتصادية والدينية، المتمثلة بوجود أكبر المقدسات الإسلامية وأهمها وأقصد هنا مكة المكرمة والمدينة المنورة. لا يمكن لعاقل في الشرق أو الغرب ولا لأي مسلم أن يرى ويقبل سيطرة إيرانية على هذه الجغرافيا.

 

بعيداً من التخرصات، لا أتصور أن إيران ستنجو هذه المرة من مغامراتها المتهورة. ولن يقبل العالم مقولة أن لا علاقة لطهران بما يحدث. العلامة الفارقة في كل ما جرى ويجري هذه الأيام، أن إيران محاصرة بالفعل وأن الدول العظمى لن تسمح لها بتطوير السلاح النووي ولن تصمت إلى الأبد أمام دعم طهران للميليشيات المسلحة في دول عربية عدة. أقول ذلك لأن الأيام أثبتت وعلى مرأى من الجن والإنس وأمام أكثر المتفائلين بنوايا إيران “السلمية” أن هذا النظام غير جدير بالثقة ولا بالاحترام.

 

ليس أمام “الجمهورية الإسلامية” بنظري ومهما أرسلت من مقذوفات إلى الداخل السعودي عبر الميليشيات الحوثية، أو تحرشت بناقلات نفط دولية إلا خياراً واحداً من اثنين؛ إما الخضوع للتفاوض والعودة للمنطق وقبول الشروط الجديدة، وهذا سيدفع الشعب الإيراني في ما بعد إلى الثورة ومحاسبة من أهدروا ثرواته وشردوا عقوله ونخبه طوال العقود الماضية، أو الانتحار من خلال مواجهة القوى العالمية والإقليمية التي لن ترحمهم في حال وقوع مواجهة عسكرية. لو وقعت هذه المواجهة فسيتم تدمير كل ما عملوا على بنائه عسكرياً، إضافة إلى تدمير البنى التحتية واللوجستية والجسور والموانئ والمطارات ومراكز الاتصالات وإعادة البلاد قروناً إلى الوراء الله وحده يعلم كيف سيخرجون منها إن خرجوا.

 

هذا مصير لا مناص منه والتاريخ شاهد على فشل مثل هذه الآيدولوجيات في بناء الحضارات والتنافس الخلاق مع الغير وتأمين المستقبل الواعد للأجيال والمحافظة على ديمومته ونموه، نحن نتحدث عن نظام يفتقد الرؤية العاقلة في قيادته ويمارس الكذب كما يتنفس الهواء، نظام عاجز عن نشر الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية البشرية والاقتصادية، نظام بارع فقط في البحث عن الدمار والخراب من دون الوصول لأي هدف استراتيجي غير البقاء في السلطة من خلال اختلاق حالة وجود “الأعداء” المتربصين به.