من يخلف «القوي» في مجلس الوزراء؟
«دولة البوجي».. الرقم الصعب الذي لا غنى عنه
رحلت حكومة نجيب ميقاتي، وأتت حكومة تمام سلام «الطويلة العمر». تماما كما غادرت وولدت حكومات اخرى. صار لدينا باقة من الوزراء «الرؤساء» ينقصهم فقط الاقامة في قصر بعبدا، وها هم يتحضّرون لإطفاء الشمعة الاولى لولايتهم في السرايا.
تغيّرت التحالفات وتلوّنت. خصوم احالتهم المصالح الى حلفاء، وحلفاء شيطنتهم التطوّرات والظروف. يحدث هذا كلّه، وسهيل بوجي ثابت في موقعه. بدا الرجل وكأنه الرقم الصعب الذي يستحيل المسّ به.. الى ان أتت ساعة التقاعد.
في 21 نيسان المقبل يبلغ بوجي الـ 68، سنّ التقاعد للقضاة في لبنان. يقول متابعون: «هنا يستحيل ايجاد اي توليفة تُبقي بوجي امينا عاما، بحيث سيضطر مجلس الوزراء الى اصدار مرسوم بتعيين شخص آخر مكانه. لكن هذا لا يعني بالضرورة خروجه من السرايا. هو سيبقى حكما «رجل الظل» لمن يخلفه.. إلا إذا نجح في صياغة توليفة ـ بدعة جديدة!.
ليس في الامر اي تنظير. في العقود الماضية ساد عرف يقضي ببقاء الامناء العامين «خلايا ناشطة» في السرايا حتى بعد إحالتهم على التقاعد، فكيف إذا كان الامر يتعلق بسهيل بوجي؟ باستثناء عبد الرحمن الشيخة الذي غادر فور تعيين رفيق الحريري رئيسا للحكومة، فإن البقية ابقت على «دوامها» في مكاتب رئاسة الحكومة. هشام الشعار اليوم لا يزال يتابع ملفات عدة، ومثله كلود مسعد والسفير زهير حمدان…
لطالما «كَهرَب» اسم الامين العام لمجلس الوزراء اعصاب منتقديه كما دفع المبهورين الى التصفيق لـ «العبقري». يصدف في جمهورية الاستثناءات ان حالة بوجي بقيت طويلا عاصية على التغيير.
لحظة دخول سلام، لاوّل مرّة الى السرايا، رئيسا للحكومة، كان بوجي الى جانبه يعرّفه على الموظفين والطاقم. هذا واجبه اصلا الذي أنكره عليه سابقا «التيار الوطني الحر»، كما جميع المهام التي اضطلع بها، حين اعتبره مغتصبا للموقع.
بالتأكيد لم يعد الرجل، منذ ولادة الحكومة السلامية، يثير حساسية «الجنرال» وجيشه. اذا سعد الحريري صار رجل التفاهمات الممكنة، ونهاد المشنوق وصفة سحرية لـ «داخلية اكثر أمانا»، واللواء اشرف ريفي «الاعدل» لـ «العدل»، لا يمكن بوجي الا ان يصبح «على العين والرأس».
ليس سهلا إلصاق رزمة من الالقاب المتناقضة في رجل واحد. لكن هذا ما حدث فعلا ويحدث. هو «الديكتاتور»، و «الحاكم بأمره»، و «المتسلّط»، و «المناور»، و «المتعالي»، و «الصلف»… لكن ايضا الدستوري، والقانوني، و «ساحر» السرايا، و «اوكسجين» رؤساء الحكومات والوزراء.
قامت القيامة العونية عليه، كما قامت في امكنة اخرى. لم يتأثّر، لا بل تحوّل لاحقا الى حاجة لـ «البرتقاليين». حاول العميد ابراهيم بشير المؤتمن على اموال «الهيئة العليا للاغاثة» جرّه الى حيث وقع، لم يفلح. انتفض عليه دار الافتاء ثم ساد الصمت. وضعت السيناريوهات والخطّط لازاحته لكنها فشلت.
القاضي في مجلس شورى الدولة منذ أن ثبّته الرئيس رفيق الحريري في «سراياه» تحوّل الى علامة فارقة. جاهر دائما بانتماء لا لبس فيه لقريطم وبيت الوسط، لكنه عمل، كما كان يقول دائما، لرئاسة الحكومة لا لاشخاص.
تخطّى بخفّة حربًا شُنّت عليه على خلفية عدم قانونية استمراره في منصبه. نصّ المادة 16 من قانون مجلس الشورى لا تجيز لاي قاض ان ينتدب لوظيفة خارج المجلس لاكثر من ست سنوات. حمل ميشال عون، وفريقه، النصّ القانوني وجالوا فيه على المقرّات والمعنيين. تضاربت الاجتهادات، فنفذ بوجي بريشه. كان هذا في زمن المواجهات القاسية بين فريقَي «8 و14 آذار».
لا في عهد فؤاد السنيورة وسعد الحريري ولا بعدهما استطاع «الجنرال» كسب المعركة، فكان الاستسلام موقّتا الى ان هبّت رياح التسوية التي طوت صفحة الخصومة مع بوجي، فيما لم يؤد توقّف الحوار بين «التيار الوطني الحر» و «تيار المستقبل» الى فتح دفاتر «الحساب» مجددا.
خيار رفيق الحريري اراح كل رؤساء الحكومات بعده. ميقاتي نموذجا. في حفل تكريم الموظفين والاعلاميين بعد تقديم ميقاتي استقالته من الحكومة لم يقل بوجي في سعد الحريري والسنيورة ورفيق الحريري ما قاله علنا في ابن طرابلس.
بوجي غير متآلف عادة مع الاضواء والكاميرات والوقوف على منابر المديح والثناء. لكنه فعلها من اجل الرئيس ميقاتي «الذي ستبقى اعماله في ذمّة التاريخ، هو الذي اخذ عن اسلافه حرفة دقة التوقيت وصوابيته». استعان ابن بيروت بحديث للنبيّ في توجيه التحية الى من «تعاون معنا مؤمنا، مصمّما، وخادما مخلصا لهذا المقام الذي اراده ان يبقى وسيبقى فوق كل اعتبار».
يستطيع راصدو الرجل ان يسردوا كتابا عن مآثره. ينصّبونه رئيس حكومة الظل. القابض على انفاس السرايا. لا تمرّ ورقة من فوق رأسه من دون علمه. المهيمن على جدول اعمال مجلس الوزراء، يطيّر بنودا ويثبّت اخرى. الفتاوى البوجية تستطيع ان تنصّب موظفا رقيبا على اعمال الوزير، اما بصماته على التعيينات فلا تحتاج الى مرشد. لا يحترم اصول التخاطب والتعاون بين الموظف والوزير. يقول مقرّبون منه «هو صريح الى درجة الوقاحة»، ودهاؤه دائم الحضور لايجاد توليفات قانونية لما هو غير قانوني».
أخذ العونيون عليه دائما «إعطاء توصياته في ما يمر او لا يمرّ من الموافقات الاستثنائية في اختزال لدور مجلس الوزراء»، كما وجّهت اصابع الاتهام اليه لوقوفه خلف بدعة «لا جلسات لمجلس النواب في ظل حكومة مستقيلة».
لم يكن صدفة ان يتبنّى حالتَهُ الخاصةَ كلُّ من تعاقب على السرايا. الاستاذ الجامعي السابق يتجنّب الإعلام. يعشق الظل واسراره. كان واحدا من قلّة كانت على علم مسبق بتوقيت زيارة الرئيس سعد الحريري الى بيروت في 8 آب الماضي.
يداوم في السرايا كأنه في منزله. ذكاء فاقع في التزلج بحرفية بين قاعاتها. لا يتكئ الا على القانون والاجتهاد الواسع ليدافع عن مئات القرارات التي وقّع عليها، او اشرف عليها، او هندسها. «لو دامت لغيرك لما اتصلت اليك». تلزم رؤساء الحكومات لا امينها العام.
الواثق من قدراته والرزين واللائق.. هو صاحب لسان سليط حين تدعو الحاجة. لن ينقص ذلك من جدّيته. عارفوه يدلّلون على تعاليه عن المغريات الى حدّ تبرّعه سابقا بمخصصات من حقه لبعض موظّفي السرايا.
الخصوم خسروا معركة ازاحته من السرايا. كان همّهم الاكبر ان لا يرصدوا اسمه في اي تشكيلة حكومية تبقيه عبئا ابديا على صدورهم، ثم ما لبثوا، مع ولادة حكومة سلام، ان قدّموا فروض الطاعة للخبير في شؤون السرايا…